
في مكانٍ بعيد، حيثُ الأشجارُ تلامسُ الغيمَ، والطيور ترسم بأجنحتها دوائرَ في السماء، كانت هناك غابة هادئةٌ وجميلة.
ليست كأي غابة، إنّها غابةٌ تعيش فيها الحيواناتُ في سلام وتعاون، وتملؤها الحكايات والأصوات المميّزة لكل كائن فيها.
في تلك الغابة، عاش فيل صغير اسمه إيلي.
كان إيلي مختلفًا عن باقي الفِيَلة.
لم يكنْ فقط أكبرَهم أذنًا أو أطولَهم خرطومًا… بل كان يمتلك صوتًا لا يشبه أيًّ صوت.
صوته قويٌّ، صادحٌ، يهتزُّ له الهواءُ وتتمايل له الأشجار.
لكن كما أن لهذا الصوت ميزةً فإنَّ له عيوبًا كذلك.
وبينما يرى إيلي صوتَه هديةً من الله، لم يُدرك أن استخدامَه دون وعي قد يتحوّل إلى مشكلة بالنسبة له وللآخرين!
المشهد الأول: جرس الإزعاج!

في كل صباح، كان إيلي يتسلّقُ التّلَّةَ القريبة من النِّهر، يرفعُ خرطومَه عاليًا نحوَ السماء، ويطلق صوتَه المُميَّزَ:
“تُوووووووووووت!”
كان هذا الصَّوتُ مثلَ جرسِ الصَّباحِ لسكّانِ الغابةِ.
الطيورُ تبدأ بالتغريد، والقرودُ تتقافزُ، والزُّهورُ تتمايلُ وكأنَّها ترقصُ.
لكنْ…
في بعضِ الأحيان، كان إيلي يطلقُ صوتَه بلا حدٍّ وبنبرةٍ مرتفعةٍ جدًّا حتى قبل أن تستيقظَ الشمسُ!
وفي أحدِ الأيّامِ، عندما أطلق صوتَه قبلَ الفجر، استيقظتِ العصافيرُ مذعورةً، وسقطتِ السلحفاةُ في البركةِ من الخوفِ، وارتبكَ النحلُ.
اقتربتْ منه السلحفاةُ قائلةً بلطفٍ:
“إيلي… نحبّك، لكنَّ صوتَك العاليَ في الصباحِ يُزعجنا، نحن بحاجة إلى بعضِ الهدوء”.
ضحك إيلي وقال:
“لكنَّ هذا صوتي! إنه جميلٌ، أليسَ كذلك؟”
ثم مضى دون أن يفكِّرَ كثيرًا في الأمر.
لا يدركُ إيلي أن تميّزَنا لا يجبُ أن يكون على حسابِ إزعاجِ الآخرين.
في صباحٍ جديد، استيقظ إيلي كعادته، تمطّى، شرِبَ من النهرِ، وتسلّق التَّلَّةَ بابتسامةٍ.المشهد الثاني: المفاجأة
رفعَ خرطومَه…
تنفّسَ بعمقٍ…
وحاول أن يصدرَ صوتَه العالي:
“تُـــــــ…”
…لكن لم يخرجْ شيءٌ!
جرَبَ مرةً ثانية… ثم ثالثة… ولا صوت!
اتّسعت عينا إيلي في دهشةٍ:
“لقد فقدتُ صوتيَ!”
ركض عائدًا إلى أسفلِ التَّلَّة يجرُّ أقدامَه الثَّقيلةَ عبرَ الغابةِ.
المشهد الثالث: مُساعَدَةُ ميا
ركض إيلي نحو صديقتِه المفضّلةِ ميا، القردة الذكيَّة والمرحة.
كانت ميا تتأرجحُ على الأغصان وتلعبُ مع صغارِ الحيوانات.
لوّح إيلي بخرطومِه، وفتح فمَه ليقول: “ميا!”
لكنَّ صوتَه خرج ضعيفًا مثل الهمس.
هبطت ميا من الشَّجرةِ بسرعة وقالت:
“يا إلهي يا إيلي! لقد فقدت صوتك؟!”
أشار إيلي إلى حلقِه وهزّ رأسه بحزن.
فكّرت ميا قليلًا وقالت:
“يجب أن نذهب إلى الدكتور ببغاء، إنه أذكى طبيبٍ في الغابة!”
المشهد الرّابع: في عيادة الدكتور ببغاء
في شجرة عالية عند طرف الغابة، كانت عيادة الدكتور ببغاء.
انتظر إيلي في الطابور مع السلحفاة، والضفدع، وببغاء صغير أصيب ببحة من كثرة الحديث.
كانت العيادة مزدحمة بالحيوانات الصغيرة، كلٌّ له مشكلتُه، والدكتور ببغاء يرحّب بالجميع بابتسامته ونظَّارته الصغيرة التي كان يضعها على منقاره.
عندما جاء دور إيلي، صعدَ السُّلَّمَ الخشبيَّ الكبيرَ ببطء، وجلس أمام الطبيب بهدوء.
فحص الدكتور ببغاء حنجرة إيلي، وطلب منه أن ينفخَ برفق. ثم دقَّ على حلقه بخفَّة وقال:
“صوتك لم يختفِ، يا إيلي، أنت أرهقته كثيرًا فقط. كنت تصرخ يوميًّا بصوت عالٍ على ما يبدو، دون أن تُريحه.
حنجرتك مثل العضلات… تحتاج إلى الراحة.”
سأل إيلي بخوف: “كم يومًا تحتاج؟”
“ثلاثة أيام كاملة من الصمت!” قال الطبيب بابتسامة، وهو يكتب وصفةً على ورقةٍ خضراءَ صغيرةٍ.
وتابع:
“دون همس حتّى! لكن يمكنك أن تجد طرقًا أخرى للتواصل.”
ربت على رأس إيلي وقال بلطف:
“هذه فرصة لتكتشف شيئًا جديدًا بداخلك… أحيانًا، الصمت يُظهر ما في قلوبنا أكثر من الكلمات.”
المشهد الخامس: لعبةُ الصمت
في البداية، شعر إيلي بالحزن. كيف سيتحدثُ مع أصدقائِه؟ كيف يلعبُ معهم؟
لكن ميا اقترحت عليه فكرةً ساطعة:
“لنجعلْ من هذا الصمتِ لعبة! تعالَ نتعلّمْ لغةَ الإشارات!”
وبدأ إيلي يتعلم:
• طَرْقُ خرطومِه على الأرضِ يعني “مرحبًا”.
• تحريكُ أذنِه اليمنى يعني “شكرًا”.
• رَسْمُ دائرةٍ بالخرطوم يعني “هل تودُّ اللعبَ؟”
وسرعان ما تعلّمتِ الحيواناتُ الصغيرةٌ هذه اللغةَ الجديدةَ!
وأصبحوا يلعبون جميعًا لعبة “الكلام الصامت”.
المشهد السادس: اكتشافٌ جديد
في اليوم الثاني، خرج إيلي وميا في نزهة هادئة.
قابلوا سلحفاة عالقةً في حفرة، فقام إيلي بمساعدتها دون أن ينطقَ بكلمة.
أشارت السلحفاة إليه وقالت:
“شكرًا لك يا إيلي، أنت لطيف جدًّا”.
ضحك إيلي بصمت وشعر بالسعادة.
وفي المساء، أقام أصدقاؤه مسرحيةً صامتة، مثّلوا فيها قصصًا باستخدام الإيماءات فقط، وكان الجمهور يضحكُ ويصفّقُ.
المشهد السابع: زائرٌ من بعيد
في اليوم الثالث، زار الغابةَ طائرٌ غريبٌ من أرض بعيدة. لم يكن يتحدث لغة الغابة.
اقترب منه إيلي بلطف، وبدأ يستخدم إشاراتِه الخاصة.
فهم الطائرُ ما يقصده إيلي، وضحك!
قالت ميا بدهشة:
“إيلي! حتى من لا يفهمُ لغتنا، يستطيعُ أن يشعرَ بلطفك!”
شعر إيلي بالفخر، فقد تعلّم أن التواصلَ ليس فقط بالكلمات.
—
المشهد الثامن: مساعدة الأصدقاء
عند الغروب، حدث شيءٌ غيرُ متوقّع…
انكسرت ساقُ جسر صغير يعبر فوقَ النَّهر. كانت هناك مجموعة من القنادس الصغيرةِ عالقةً في الطرف الآخر.
لم يكن هناك وقت للكلام والتفكير، كانوا بحاجة إلى مساعدةٍ عاجلة!
ركض إيلي نحو الجسر، ولوّح بخرطومِه، وأشار للجميع أن يبتعدوا.
ثم مدّ جسدَه الكبيرَ فوق المجرى لتعبر من فوقه القنادس بأمان.
عندما وصلوا للطرف الآخر، صفّق الجميع، وصاحت ميا:
“أنت البطل يا إيلي!”
المشهد التاسع: عودةُ الصوت…
في صباح اليوم الرابع، استيقظ إيلي وشعر بشيءٍ مختلف.
أخذ نفسًا عميقًا…
رفع خرطومَه…
وأطلقَ بهدوء:
“تـــــــوووووت…”
عاد صوتُه!
ركض إلى ميا والحيوانات فرِحًا.
قال العصفورُ: “نحن سعداء برجوعك… لكن هل تذْكُرُ كيف كان صوتُك العالي يوقظنا مفزوعين؟”
قال إيلي وهو ينظر إلى الأرض:
“أنا آسف… لم أكن أعلم أنه يزعجكم”
قالت ميا:
“الآن تعرف يا إيلي أن مراعاة الوقت والمكان والآخرين مهمّ جدًّا.”
هزَّ إيلي رأسه وقال بابتسامة:
“صوتي لن يكون سببًا لإزعاج أحد بعدَ الآن، سأستخدمه بلُطف.”
المشهد العاشر: الحكمة الأخيرة
في الأيّام التالية، لاحظ الجميعُ أنَّ إيلي تغيّر.
لم يعد يطلق صوتَه كلَّ صباح بلا تفكير، بل صار ينتظر أن يستيقظ الجميعُ أولًا، ثم يطلقه بوداعة، كما لو كان يقول:
“صباح الخير، يا أصدقائي.”
صار يُنصت أكثر إلى من حوله، ويتحدث عند الحاجة فقط.
وتحوّل من “صاحب الصوت العالي” إلى “صاحب القلب الكبير”.
تعلم إيلي أن لكل شيء وقتًا ومقدارًا، حتى الأشياء الجميلة.
وتعلّم أن الاعتذارَ ليس ضعفًا، بل شجاعة.
صار حديثُه أقلَّ… لكنَّ حضورَه صار مؤثِّرًا أكثرَ.
وصار أصدقاؤه يحبّونه أكثرَ ممّا كانوا من قبلُ، لا لأنه توقف عن إطلاق صوته، بل لأنه تعلّم أن يكون أكثر وعيًا بلُطفه.
وهكذا، عاش إيلي سعيدًا بصوته، وبصمته أيضًا.
تعلّم إيلي دروسًا كثيرة:
• أنَّ الصوتَ نعمةٌ يجب أنْ تُستخدم بحكمة.
• أنَّ الهدوءَ أحيانًا أبلغُ من الكلمات.
• أنَّ الاستماعَ لا يقلُّ أهميةً عن الكلام.
✅ النهاية
رسالة القصة للأطفال:
• لا بأسَ أن تُعبّر عن فرحك، لكن راعِ مشاعرَ الآخرين.
• من المهمَّ أن نعتذرَ عندما نُخطئ، ونتعلم من التجربة.
• الهدوء واللطف والاستماع… علاماتٌ على الذكاء والتفهّم ومدعاة لمحبة الآخرين.
