سلسلة حكايات فلسطين | عصافير نابلس وحكاية الصابون

قصة صناعة الصابون النابلسي للأطفال

قصّة جديدة ومدينة جديدة نزورها معًا في سلسلة حكايات فلسطين. اليوم نزور مع صديقنا آدم مدينة نابلس ونتعلّم معًا كيفية صناعة الصابون الذي تشتهر به المدينة. انضمّوا إلينا في هذه المغامرة الممتعة والدافئة، ولنستكشف معًا مدينة نابلس العريقة.

صباح نابلس والعصافير

استيقظت مدينة نابلس مع أوّل خيطٍ من نور الصباح. أطلّ قرصُ الشمس ببطء من بين الجبال، وألقى بأشعته الذهبية على البيوت الحجرية القديمة، فتلألأت الأسطح والقباب الصغيرة كأنها تبتسم ليوم جديد.

في الأزقّة الضيّقة، انتشرت رائحة الخبز الطازج والزعتر. وفوق الحيّ، حلّقت عصافير صغيرة، تنتقل من سطحٍ إلى آخر، وتغنّي بصوتٍ رقيق، كأنها تقول: صباح الخير يا نابلس.

في أحد البيوت، فتح الصبيّ آدم نافذة غرفته. دخل الهواء البارد منعشًا، ومعه حمل رائحة غريبة لم يعهدها الصبي الصغير. توقّف آدم، وأخذ يشمّ بدهشة:

_ هذه ليست رائحة خبز… ولا قهوة… إنّها رائحة نظيفة، هادئة، تشبه زيت الزيتون النقي بعد المطر.

مدّ آدم رأسه خارج النافذة، كم يبحث عن مصدر هذه الرائحة المميزة، فرأى بعض العصافير تحلّق فوق مبنى حجري كبير في آخر الحارة.
كان يعرف هذا المبنى جيدًا؛ إنّه المَصْبنة (مصنعُ الصابون) التي يعمل فيها جدّه، حيث يُصنَع الصابون النابلسي المشهور.

وما فتئ الجدّ يطرق الباب، ويدخل الغرفة بخطوات هادئة، وابتسامة مشرقة ترتسم على وجهه:

– صباح الخير يا آدم. ما رأيك أن تزور المَصْبَنَة معي اليوم؟

أشرق وجه آدم فرحًا:

– نعم يا جدّي. أريد أن أعرف كيف يتحوّل زيت الزيتون إلى صابون.

ربّت الجدّ على كتفه برفق:

– حسنًا يا بنيّ، اليوم سوف ترى كل شيء بعينيك. فاذهب وتناول فطورك لنغادر بعدها، لقد أعدّت جدّتك فطائر الزعتر اللذيذة، وهي بانتظارك الآن.

_ يا سلاام! فطائر جدّتي الشهية التي لا تقاوم! أنا قادم!

ثمّ ألقى نظرة أخرى من النافذة. وسارع لارتداء ثيابه، قبل الفطور. كانت العصافير ما تزال تحلّق فوق الحارة، والمدينة تستعدّ ليومٍ جديد.
لم يكن يعلم آدم حينها أنّ هذا اليوم سيجعله ينظر إلى قطعة الصابون الصغيرة في بيته بطريقة مختلفة تمامًا…

نابلس

داخل المصبنة القديمة

سار آدم مع جدّه في الأزقّة المرصوفة بالحجارة. كان الناس يفتحون محالّهم، والأطفال يسرعون إلى مدارسهم، ورائحة الصابون تزداد كلّما اقتربا.

دخلا من بابٍ خشبيّ عريض، فشعر آدم أنّه انتقل إلى عالمٍ آخر. سقف عالٍ، جدران حجرية سميكة، وضوء الشمس يدخل من نوافذ مرتفعة على شكل خطوط ذهبية.

في وسط القاعة، رأى حلّة نحاسية ضخمة، وتحتها نار هادئة. داخلها خليط سائل يتحرّك ببطء، وكان أحد العمّال يحرّكه بعصًا خشبية طويلة.

وقف آدم إلى جوار جدّه ينظر بدهشة. ثمّ التفت إلى الجدّ وهمس مستفسرًا:

_ ماهذه يا جدّي؟

_ هنا تبدأ حكاية الصابون. نخلط زيت الزيتون مع الماء ومادة تساعد على التنظيف، ثم نطبخ الخليط بصبرٍ طويل.

أجاب الجدّ موضّحًا. ثمّ أشار إلى برميل كبير في زاوية القاعة، وواصل القول:

– أوّلًا، نأتي بزيت الزيتون من بساتين الزيتون حول نابلس. إنّه زيت نظيف وعالي الجودة، من أشجار قديمة رعاها الفلّاحون طويلًا. ثم نخلط الماء بمادة خاصّة في برميل آخر. وبعد ذلك نسكب هذا الخليط مع زيت الزيتون في الحلّة الكبيرة.

أنصت باهتمام إلى جدّه وهو يشرح له عن كيفية صناعة الصابون، وراح يتأمّل حركة العامل.

قال الجدّ:

– نطبخ هذا الخليط ساعات طويلة، وأحيانًا أيّامًا، مع التحريك المستمرّ. ومع مرور الوقت، يتحوّل هذا الخليط كله إلى مادة جديدة هي الصابون.

نظر آدم حوله، فرأى عمّالًا آخرين يقومون بأعمال مختلفة، أحدهم يراقب النار تحت الحلّة، وآخر يتأكّد من كثافة الخليط، وآخر يجهّز أدوات لمرحلة قادمة.

كان المكان نشيطًا يعجّ بالحركة، لكنّها حركة منتظمة مدروسة، تمامًا كخلية نحل، وأحسّ آدم في أعماقه أنّ هذه المصبنة ليست مجرّد مصنع عادي، بل قلب نابلس الصغير الذي ينبض برائحة زيت الزيتون والصابون.

ثمّ رفع رأسه نحو إحدى النوافذ العالية، فبدت له قطعة من السماء الزرقاء الصافية، ووسعه رؤية أسراب من الطيور تحلّق في البعيد.

مربّعات الصابون وأبراج نابلس

بعد وقتٍ من الطبخ والتحريك، أعلن أحد العمّال أنّ خليط الصابون أصبح جاهزًا.
اقترب عمّال آخرون يحملون أوعية معدنية كبيرة، وبدؤوا يغرفون السائل من الحلّة، ويسكبونه على أرضية واسعة ملساء في وسط القاعة.

انتشر الصابون السائل على الأرضية، حتى صار يشبه بساطًا سميكًا لامعًا بلونٍ عاجيّ خفيف. ووقف آدم إلى جانب جدّه يتأمّل هذا البساط الغريب.

انتظر الجميع قليلًا حتى برد الصابون بعض الشيء، ثم جاء عامل يحمل أداة طويلة مستقيمة تشبه المسطرة. بدأ يمرّرها على سطح الصابون، يرسم خطوطًا متوازية بالطول، ثم خطوطًا أخرى بالعرض. وهكذا تحوّل البساط الكبير إلى شبكة من المربّعات المتساوية.

قال آدم وهو ينظر متعجبًا:

– تبدو مثل صفحة كبيرة من دفتر الرياضيات، لكنها مصنوعة من الصابون!

ضحك الجدّ:

– نعم، كلّ مربع هنا سيتحوّل إلى قطعة صابون منفصلة.

ثمّ جاء عامل آخر يحمل أداة معدنية صغيرة عليها نقش محفور، ثمّ انحنى على كل مربّع، يضغط بالختم في وسطه بلطف. فظهر على وجه كل قطعة ختم المصبنة، كعلامة تدلّ على أنّ هذا الصابون نابلسي أصلي.

سأل آدم بفضول:

– لماذا تضعون هذا الختم يا جدّي؟

– كي يتأكد الناس عندما يشترون الصابون أنّه مصنوع من زيت الزيتون الصافي، وبطريقة صحيحة. الختم يشبه توقيع الفنان على لوحته، يقول للناس: “صُنع هذا المنتج بأفضل الموادّ، وعلى الأصول!”

_ وماذا الآن؟

سأل آدم مجدّدًا، فقاده الجدّ إلى زاوية أخرى في المصنع، حيث كان العمّال يجمعون قطع صابون تمّ إعدادها سابقًا، كانت القطع تشبه مكعّبات صغيرة ذات لون هادئ، بين الأبيض والأصفر، رائحتها لطيفة وقويّة في الوقت نفسه.

حمل بعض العمّال هذه المكعّبات إلى زاوية خاصة من المصبنة، حيث كانت استقرّت صفوف عالية من الصابون. صفّوا القطع الجديدة فوق القديمة، على شكل أبراج طويلة، مع ترك فراغات صغيرة بين القطع ليمرّ الهواء بينها.

تقدّم آدم وهو ينظر إلى الأبراج بإعجاب:

– لماذا تتركون الصابون في هذه الأبراج كل هذا الوقت؟

– لأن الصابون يحتاج إلى أن يجفّ بهدوء، يا آدم.

يبقى هنا أشهرًا حتى يزداد صلابة وجودة، فلا يذوب بسرعة عندما نستخدمه في الماء.

تأمّل آدم أبراج الصابون النابلسي باهتمام، وأحسّ أنّ كلّ قطعة تروي حكاية عريقة عن شجر الزيتون، وجِدِّ الفلاحين، وجهود عاملي المصبنة.

هديّة من رائحة نابلس

مع نهاية النهار، هدأت حركة العمال في مصنع الصابون النابلسي، وراح العمّال يرتّبون أدواتهم ويجهّزونها لليوم التالي. اقترب الجدّ من أحد أبراج الصابون، وأخذ بعض القطع التي جفّت أخيرًا. لفّها في أوراق بيضاء خاصّة، ثم أعطى آدم قطعتين.

– هذه لك، وسنقدّم الأخرى هديّة لأحد الجيران.

فرح آدم بهذه الهدية الجميلة، وسار مع الجدّ معًا عائدين إلى المنزل. كانت الشمس تميل نحو الغروب، وتلوّنت السماء بدرجات البرتقالي والأحمر، فيما حلّقت العصافير عائدة إلى أعشاشها هي الأخرى فوق أسطح منازل نابلس العريقة.

وفي طريقهما، مرّ الجدّ وآدم من أمام بيتٍ صغير في الحارة. كانت هناك امرأة مسنّة تجلس عند الباب على كرسي خشبي، تراقب الأطفال وهم يلعبون بالحجارة والكرات في الزقاق. كانت تلك الحاجة أم حسّام. سلّم الجدّ عليها، ثم قال لآدم بلطف:

– تقدّم يا بنيّ، وقدّم لها قطعة الصابون.

تقدّم آدم بخطوات خجولة، ومدّ يده بالهدية:

– هذه قطعة صابون من المصبنة، أهداها لي جدّي، وأحببنا أن نهديكِ واحدة.

أخذت الحاجة أم حسّام القطعة بعناية، واستنشقت رائحتها الجميلة، فأشرق وجهها فرحًا بمجرّد أن لامست الرائحة أنفها:

– ما أطيب هذه الرائحة… تذكرني بأيامٍ الزمن الجميل، حين كانت نابلس تمتلئ بالمصابن، والبيوت تفوح برائحة الصابون والزيتون.

غمر الدفئ قلب آدم الصغير. لقد أدرك حينها أنّ بإمكان هديّة صغيرة مثل قطعة صابون أن تدخل السعادة إلى القلوب، وتعيد إليها ذكريات جميلة مليئة بالحنين إلى الماضي.

وعاد مع جدّه إلى البيت سعيدًا مسرورًا بما رآه وعاشه اليوم في المصبنة. في المساء، وضعت الأمّ قطعة الصابون الأخرى قرب حوض الغسل في الحمّام. وما هي إلاّ لحظات حتى انتشرت في البيت رائحته، كانت خفيفة، ولكنّها جميلة للغاية.

وقف آدم يغسل يديه، يراقب الرغوة البيضاء على أصابعه، ويتذكّر الحلّة الكبيرة، والبراميل، والمربّعات، والأبراج العالية. أدرك أنّ الصابون الذي يستخدمه كلّ يوم ليس شيئًا عاديًا، بل هو جزء من تاريخ مدينته نابلس.

اقترب من النافذة، ونظر إلى السماء.
رأى العصافير تطير في آخر ضوء للغروب، ثم تختفي شيئًا فشيئًا بين الأسطح. ابتسم آدم، وقال محدّثًا نفسه:

_ كلّما رأيتُ عصافير نابلس في السماء، سوف أتذكّر رائحة الصابون النابلسي، والمصبنة القديمة، ويدي التي حملت قطعة صغيرة تحمل حكاية كبيرة.

اقرأ المزيد من حكايات فلسطين على موقع حدّوتة.

شاركنا رأيك بالقصة

Your email address will not be published. Required fields are marked *