
في عالم الحكايات المليء بالمغامرات والضحكات، يطلّ علينا رجل ظريف اسمه جحا. جحا شخصية عربية مشهورة جدًّا، أحبّه الناس عبر السنين لأنه يملك ذكاءً سريعًا وطرافةً لا حدود لها، فتجده أحيانًا يخطئ بطريقة مضحكة، وأحيانًا يردّ على المواقف بإجابات ذكية تُدهش الجميع.
ولأن قصصه تجمع بين المرح والحكمة، أحببنا أن نأخذكم في رحلة ممتعة عبر مجموعة من أشهر نوادره. ستقرؤون في كلّ فصل حكاية مضحكة جديدة، مليئة بالمواقف الطريفة، والأحداث عجيبة، والدروس الجميلة التي تجعلنا نفكّر ونبتسم معًا.
جحا يبيع حماره

كان الصباح دافئًا والنسيم يهبّ برفق حين خرج جحا من بيته ممسكًا بحبل حماره. كان الحمار يمشي بخطوات هادئة، يتلفّت يمينًا ويسارًا وكأنه يعرف أنّ أمرًا ما ينتظره اليوم!
قال جحا وهو ينفض الغبار عن ثوبه مبتسمًا:
«اليوم يا رفيقي العزيز… سنذهب إلى السوق، لعلّي أجد من يشتريك بثمنٍ جيّد.»
وصل جحا إلى السوق عند الضحى، فوجد المكان يعجّ بالحياة. وأصوات الباعة تتردّد في الأجواء:
«تفاح طازج!» — «توابل من بلاد بعيدة!» — «سيوف لا تُشقّ لها دروع!»
والناس تذهب وتأتي بين الدكاكين بنشاط كبير.
وقف جحا وسط هذا الزحام، نظر إلى حماره نظرة طويلة، ثم قال في نفسه:
«لن يشتري أحدٌ حمارًا عاديًّا… عليّ أن أُثير اهتمامهم ليشتروه!»
تنفّس جحا بعمق، ونادى بأعلى صوته:
“هلمّوا يا قوم! من يشتري حمارًا لا مثيل له؟! حمار يعرف الطريق وحده، يحمل الأثقال بلا تعب، وصبورٌ يشكر الله حتى وهو يعمل!”
توقّف المارّة عند سماع ما قاله جحا، وشدّ اهتمامهم أمر هذا الحمار العجيب.
اقترب رجلٌ وقال بدهشة:
“حقًّا؟ وهل رأيت حمارًا يعرف الطريق من تلقاء نفسه؟”
ولحقه آخر قائلًا:
“وهل يصبر أكثر من كل الحمير؟! عجبًا يا جحا!”
التفّ الناس حول جحا، كلّ واحد منهم يحاول رؤية هذا الحمار الغريب العجيب.
وبدأت الأصوات تتعالى، قال أحدهم:
“أنا أشتريه!”
وصاح آخر:
“بل أنا أشتريه، وسأزيد على الثمن!”
وقال ثالث:
“مثل هذا الحمار لا يفوَّت!”
وهكذا تعالت الهتافات وتزاحم الناس على شراء حمار حجا، الذي شعر فجأة بشيء غريب… أحسّ جحا فجأة أنّ حماره، ربّما ليس كما يظنّ! اقترب منه، رفع أذنه قليلًا، نظر في عينيه، وتفحّصه كما لو أنّه يراه لأوّل مرة.
وبعد لحظات من الصمت، صاح جحا موجّها كلامه إلى الجمع:
” إذا كنتم أنتم أهل الخبرة، ترون فيه كلّ هذه الصفات العظيمة…فكيف أبيعه؟! ممّا لا شكّ فيه أنّي لم أعرف قيمة حماري من قبل!”
ثم أمسك الحبل بقوّة، واعتدل واقفًا وأضاف قائلاً:
“معذرة منكم أيّها القوم، فحماري ليس للبيع!”
ثمّ انطلق مبتعدًا، هو وحماره، فيما راح الناس يحدّقون فيه مذهولين، يتضاحكون من تغيّر رأيه المفاجئ…
سار جحا، وحماره إلى جانبه، وراح يربّت على ظهر الحمار مبتسمًا:
«يا لك من حمار مميّز! لولا أهل القرية، ما عرفتُ قيمتك… وهل يبيع المرء كنزًا ثمينًا مثلك؟!”
وهكذا عاد جحا إلى بيته سعيدًا، وقد اكتشف أنّ أحيانًا كلمة واحدة من الآخرين كفيلة بأن تغيّر رأيًا… أو تعيد لصاحب الشيء قيمته في قلبه!
إرضاء الناس غاية لا تُدرك

خرج جحا في يومٍ مشمس حارّ متجهًا إلى السوق مع ابنه الصغير، يقودان معهما حمارهما الهادئ. وبعد قليل شعر جحا بالتعب، فركب الحمار وترك ابنه يمشي أمامه ممسكًا باللجام.
بينما هما يسيران، مرّا بجماعة من الرجال. نظر الرجال إلى المشهد وقال أحدهم بصوتٍ عالٍ:
“ما هذا الأب القاسي؟ يركب مرتاحًا ويترك ابنه الصغير يمشي تحت الشمس الحارقة!”
عند سماع هذه الكلمات، شعر جحا بالخجل من نفسه، فنزل فورًا عن ظهر الحمار وقال لابن برفق:
“فلتركب أنت يا بنيّ على ظهر الحمار، وسأمشي أنا إلى جانبك…”
وكذلك كان الحال، ركب الابن الحمار، وسار جحا إلى جانبه، واستمرّا في المسير إلى أنّ اقتربا من السوق، ومرّا بجانب مجموعة من النساء. وما إن رأينهم حتّى صاحت إحدّاهن مستنكرة:
“يا له من ابن عاقّ، يركب الحمار مرتاحًا، ويترك والده العجوز المسكين راجلاً يسير على قدميه في هذا الطقس الحارّ!”
وعند سماع هذه الكلمات، شعر الأب وابنه بالحيرة، وقال الابن:
“ما رأيك يا أبي أن نركب معًا؟ فربّما هذا هو الصواب…”
وافق جحا ابنه، وركب هو الآخر على ظهر الحمار، لكنّ الحمار المسكين لم يتحمّل وزن الاثنين معًا، وراح يسير ببطء. وما هي إلى لحظات قليلة، حتى وصلوا إلى السوق، وما إن رآهم التجّار، حتى استنكروا المشهد، وأردف أحدهم معلّقًا:
“يا للحمار المسكين، كيف يمكنهما أن يثقلاه هكذا، ألا يعرفان شيء عن الرحمة والرفق بالحيوان؟!”
ازدادت حيرة جحا، وكذلك ابنه، وقرّر الاثنان النزول عن ظهر الحمار، والسير على أقدامهما، ليرتاح حمارهما. وبعد أن أنهيا شراء حاجتهما، خرجا من السوق يمشيان، والحمار يتبعهما مطمئنًا. لكنّهما ما لبثا يسمعان مجموعة من أهل القرية يضحكون ساخرين منهما، وسمعا أحدهم يقول:
“يالا سذاجة هذا الرجل وابنه، يسيران على أقدامهما ويتركان الحمار خلفهما دون أن يركبا على ظهره!”
تبادل جحا وابنه النظرات فيما بينهما، ثمّ انفجرا ضاحكين معًا، ثمّ قال جحا:
“فعلاً، إرضاء الناس غاية لا تُدرك، فمهما فعلنا، سنتلقى نقدًا واعتراضًا… الأجدر أن نقوم بما هو صواب لنا، وندع كلام الغير عنّا.”
ومضى الثلاثة في طريقهم؛ جحا، ابنه، والحمار… وقد فهموا الدرس جميعًا.
جحا والقِدر

استعار جحا يومًا من جاره قدرًا كبيرة ليطبخ فيها الطعام. شكره بحرارة، ثم عاد بها إلى بيته. وبينما كان يغسل القدر بعد استخدامها، خطرت له فكرة غريبة جعلته يبتسم بمكر.
أحضر جحا قدرًا صغيرة من مطبخه، ووضعها داخل القدر الكبيرة، ثم حملهما معًا وذهب إلى بيت الجار، وطرق الباب.
فتح الجار، فسلّمه جحا القدر الكبيرة، ولاحظ القدر الصغيرة داخلها، فرفع حاجبيه دهشة وقال:
“ما هذه؟ أنا لم أعطِكَ إلا قدرًا واحدة!”
ابتسم جحا ابتسامة واسعة وقال بلطف مصطنع:
“يا جاري العزيز… بشّرك الله بالخير! قِدرُكَ الكبيرة ولدت عندي قدرًا صغيرة، ومن الأمانة أن أعيدهما إليك معًا.”
تغيّرت ملامح الجار بسرعة… من الدهشة إلى الفرح ثم إلى الطمع.
أخذ القدرَين وهو يقول:
“الحمد لله! يبدو أنّ قدري مباركة!”
ومضت الأيام. إى أن جاء يوم احتاج فيه جحا إلى القدر مجدّدًا، فطرق باب جاره وقال:
“يا جاري العزيز، أعِرني القدر الكبيرة مرة أخرى، فقد احتجتُ إليها.”
وافق الجار بلا تردد، وكيف لا يوافق؟! فهو ينتظر «ولادة» جديدة تزيد من عدد قدوره!
أخذ جحا القدر الكبيرة ومضى. مرّ يوم، ويومان، وثلاثة… ولم يُعِد جحا القدر إلى صاحبها. ونفذ صبر الجار وهو ينتظر عودة قِدره، فذهب إلى بيت جحا وطرق الباب بقوة.
فتح جحا الباب وقد بدت على وجهه ملامح الحزن الشديد، فقال الجار بنبرة تنمّ عن الضيق ونفاذ الصبر:
“أين القدر التي أعرتُك إيّاها يا جُحا؟ لقد تأخرت كثيرًا!”
تنهّد جحا بعمق، وأجاب بصوت يملؤه الأسى:
«يا جاري… أعزِّي نفسي وأعزّيك… فقِدرك الكبيرة ماتت!»
شهق الجار مندهشًا وصاح:
“ماتت؟! كيف تموت القدر يا جحا؟! أتعتقد أنّي أحمق أو مجنون؟!”
رفع جحا كتفيه بهدوء وقال:
“عندما قلتُ لك إن القدر ولدت، صدّقتَ دون أن تعترض…فلماذا لا تصدّق أنها ماتت؟ من يقبل الربح، عليه أن يقبل الخسارة أيضًا!”
وصمت حينها الجار، فقد أدرك أنّه وقع في فخّ طمعه!
جحا والخبّاز

ذهب جحا في صباحٍ مزدحم إلى المخبز ليشتري الخبز، فإذا به يجد صفًّا طويلًا من الناس يقفون ينتظرون دورهم بصبرٍ.
نظر جحا إلى أوّل الصف ثمّ إلى مكان وقوفه، وقال متنهّدًا:
“لو وقفتُ هنا فلن أصل إلى الخبز قبل الظهيرة! لا بد من حيلة.”
تقدّم جحا خطوة إلى الأمام، متظاهرًا أنّه يحمل أخبارًا مهمّة، ثم صاح بأعلى صوته ليسمعه الجميع:
“أيها القوم! ألم تسمعوا عن أمر الوليمة الكبيرة عند بيت الشيخ فلان؟ ما بالكم تقفون هنا في هذا الصف الطويل، تدفعون المال مقابل بضع أرغفة من الخبز؟! في الزقاق الخلفي وليمة عظيمة، يُقدّم فيها الطعام مجانًا!…”
لم يكد الناس يسمعون كلامه حتى انفرجت أساريرهم، وانطلقوا مسرعين نحو الزقاق الخلفي، يركضون فرحًا بما ظنّوه فرصة ذهبية! وقف جحا يراقبهم وهو يبتسم بانتصار، ثم قال في نفسه:
“الآن أصبح الطريق خاليًا… سأشتري الخبز بسهولة.”
وتقدّم نحو المخبز بخطواتٍ واثقة. لكن خطر في باله فجأة خاطر غريب. توقّف، ونظر إلى الناس وهم يركضون نحو الوليمة المزعومة. قال متردّدًا:
“إنّهم يركضون بسرعة… لعلّ الخبر حقيقي! ومَن يدري؟ ربما هناك وليمة لا تُفوَّت حقًا! من الأفضل أن أذهب أنا أيضًا وأتفقّد الأمر!”
وهكذا نسي جحا الخبز تمامًا، وانطلق يعدو خلفهم بكل حماس، متجهًا إلى الزقاق الخلفي، مصدّقًا بذلك كذبته التي كذبها!
جحا والملك والحكماء الثلاثة

في يومٍ من الأيام، وصل إلى مدينة جحا ثلاثة حكماء جاؤوا من بلاد بعيدة، وكان الملك قد استقبلهم في قصره وأكرم ضيافتهم.
وأثناء تناولهم الغداء، قال أحد الحكماء للملك:
“يا مولاي، هل في مدينتكم رجلٌ ذكي حكيم يمكنه حلُّ أصعب الأسئلة والألغاز؟”
فكّر الملك قليلًا، ثم تذكّر جحا، الذي كان مشهورًا بين الناس بخفّة روحه وسرعة بديهته، فأمر بإحضاره فورًا لمناظرة الحكماء.
عندما وصل الخبر إلى جحا، ارتدى أجمل ثيابه، وربط على رأسه عمامة بيضاء ليبدو وقورًا، ثم امتطى حماره وتوجّه إلى القصر بخطوات واثقة.
ولما وصل، وجد مجموعة كبيرة من الناس ينتظرون بشوق ليروا كيف سيجيب جحا عن أسئلة الحكماء الثلاثة.
ترجّل جحا عن حماره، ووقف أمام الحكماء قائلًا بثبات:
“أنا مستعد للاختبار.”
تقدّم الحكيم الأول وسأل:
“أخبرنا يا جحا، أين يقع مركز الأرض؟”
نظر جحا إلى الأرض، ثم أشار إلى المكان الذي يقف عليه حماره وقال بكلّ ثقة:
“هنا تمامًا. حيث تقف رجل حماري اليُسرى…”
دُهِش الحكيم وسأل مجدّدًا:
“وما دليلك؟”
فابتسم جحا وقال:
“إن شككتَ في كلامي، فاحفر هنا. وإن وجدتُ مخطئًا، فلك أن تقول عني ما تشاء.”
ساد الصمت، إذ لم يجد الحكيم ردًّا مناسبًا.
تقدّم بعدها الحكيم الثاني وسأل:
“كم عدد النجوم في السماء؟”
أجاب جحا فورًا:
“عددها يساوي عدد الشعر في جسد حماري.”
ارتفعت همهمة التعجّب بين الحضور، فسأله الحكيم:
“وكيف نتأكد من ذلك؟”
فردّ جحا بهدوء:
“يمكنك أن تعدّ شعر حماري، فإن طابق عدد النجوم، كنتُ صادقًا، وإن لم يطابقها، يمكنك فعل بي ما تشاء!”
ضحك الحضور، وارتبك الحكيم لأنّه أدرك استحالة التأكّد من هذه الإجابة.
أخيرًا، تقدّم الحكيم الثالث، وقال بثقة:
“حسنًا يا جحا… ما عدد الشعيرات في رأسي؟”
وأجاب جحا بلا تردد:
“هي بعدد الشعيرات في ذيل حماري.”
رفع الحكيم حاجبيه وسأل متحديًا:
“وما دليلك هذه المرة؟”
قال جحا مبتسمًا:
“بسيطة، يمكننا أن ننزع شعر ذيل حماري، ونعدّه، وكذلك شعر رأسك، وإن كان العددان متساويين، فإجابتي صحيحة!”
انفجر الحضور ضاحكين، ولم يجد الحكيم ردًّا مناسبًا على إجابة جحا، فلم يكن بالطبع يجرؤ على اقتلاع شعر رأسه بالكامل لإثبات صحّة الجواب. وأنّا الملك، فلم يتمالك نفسه من طرافة جحا ودهائه في الوقت ذاته.
أُعجب الحكماء الثلاثة بسرعة جواب جحا وفطنته، وسأله أحدهم:
“يا جحا، كيف استطعت أن تجيب عن أسئلتنا بهذه البراعة؟”
هزّ جحا كتفيه وقال ببساطة:
“عندما يكون السؤال بلا جوابٍ معقول… تصبح كلّ إجابة غير معقولة مناسبة!”
ضحك الجميع مرة أخرى، واعترف الحكماء أن جحا حقًّا رجلٌ ذكي يعرف كيف يخرج من المواقف الصعبة بحكمة وطرافة.
اقرأ المزيد من قصص المغامرات المسلية على حدوتة.
تصفّح قصص قبل النوم للأطفال.
