
كان سليم يبلغ من العمر 10 أعوام عندما ذهب وعائلته لأداء مناسك العمرة في مكّة المكرّمة. استعدّ هو وعائلته المكوّنة من أبيه وأمه وأخيه الأكبر أيمن، وأختيه الأصغر ليلى وراما، ورافقتهم في تلك الرحلة الكريمة الجدّة الطيبة، حيث كانت تعلّم سليم وإخوته شروط العمرة وكيفيتها، وتذكّرهم بالأدعية المستحبّ دعاؤها أثناء أداء هذه العبادة العظيمة. كما كانت الجدّة أيضًا تقصّ عليهم في كلّ ليلة قصّة من قصص القرآن.
لننضمّ اليوم إلى سليم وعائلته، ونتعرّف على قصّة الفيل وأبرهة الحبشي!

ليلةٌ في مكة
في الليلة الأولى لعائلة سليم في العمرة، وبعد أن أدّى الجميع العبادات المطلوبة من طواف وسعي، وصلاة، جلس سليم وإخوته مع الجدّة ف ساحة الحرم، يستشعرون روحانية المكان، ويدعون الله بما تتمنّى نفوسهم. ثمّ قالت ليلى مخاطبة الجدّة:
“احكِ لنا قصّة يا جدّتي!”
“ماذا تقولين يا ليلى؟! لا يجب أن نسمع الحكايات في الحرم! إنّنا نؤدّي مناسك العمرة الآن!” قال سليم معترضًا.
وضحكت الجدّة برفق، قائلة:
“لا عليك يا سليم، لديّ في الواقع حكاية مهمّة، يجب أن تُحكى في الحرم على وجه التحديد!”
“وما هي يا جدّتي؟” سأل سليم مستغربًا.
“سأحكي لكم يا صغاري، حكاية عظيمة، ذكرها الله في كتابه الكريم…إنّها قصة الفيل وأبرهة، الحبشي، قصّة عن اليوم الذي حفظَ الله فيه بيتَه الحرام من الهدم».
“كلّنا آذان صاغية يا جدّتي!” هتف الأطفال معًا، وأشارت الجدّة لأحفادها أن يقتربوا منها، وانضمّ إليهم بعض الأطفال الآخرين ممن سمعوا ما قالته الجدّة عن القصّة الجديدة.
بدأت الجدّة الطيبة برواية الحكاية:
كان أهل مكة يعيشون حول الكعبة، يجلّونها ويؤمّونها بالحج منذ زمنٍ بعيد. كانوا يفخرون بأنهم جيران البيت العتيق، وأن مكة بلدٌ آمن يخرج منه الناس ويدخلون في أمان. في تلك الأيام، كان العرب يزورون مكة في مواسم معروفة، يتزوّدون ويبيعون ويشترون، ويطوفون بالبيت، وكانت الكعبة قلبًا نابضًا في صحراء الجزيرة. لكن هناك رجل بعيد في اليمن اسمه أبرهة، أراد أن يغيّر مجرى القلوب عن الكعبة.
رفعت حفيدتها الصغيرة يدها:
لكن لماذا يا جدتي؟
ابتسمت الجدة:، وأحابت:
“لأنه ظنّ أن الناس إن وجدوا بيتًا آخر عظيمًا، سيتركون الكعبة ويأتون إليه، فأراد أن يبني لنفسه مجدًا.”
كنيسةٌ عالية وطموحٌ متكبر

بنى أبرهة في اليمن كنيسةً عالية السقف، مزدانة بالزينة، أراد أن يجعلها مقصدًا للناس كي يصرفهم عن بيت الله الحرام. ولكن القلوب لا تُصرف بالقوة، والقداسة لا تُنشأ بالطوب والحجارة. سمع أبرهة أن العرب لا يزالون يأتون الكعبة، فاشتعل في صدره الغرور والغضب، وقرّر أن يسير بجيشٍ كبير إلى مكة، ومعه فيلة ضخمة لم يرَ أهل الجزيرة مثلها من قبل، يتقدمها فيلٌ عظيم يقال له “محمود”. كان يظنّ أن قوة الحديد والفيلة ستُخضع أهل مكة وتُمكّنه من هدم الكعبة.
سأل أحد الأطفال بفضول كبير:
“وهل خاف أهل مكّة؟”
قالت الجدة:
“سيأتيك الجواب، ولكن اعلموا يا صغاري أنّ الله إذا أراد أن يحفظ شيئًا، حفظه بأهون الأسباب في أعين الناس، وأعجبها في قلوبهم”. ثمّ واصلت الحكاية:
“شاع خبر خروج أبرهة وتقدّمه نحو الكعبة بفيلته، فخاف أهل مكّة بالفعل، واختبؤوا في الجبال المحيطة بالكعبة خوفًا من أبرهة وجيشه العظيم.
طريق الصحراء ومهابَة الفيل

سارت الفيلة ببطءٍ وثبات، تُحدِثُ الأرض تحت أقدامها دمدمةً كأنها طبولٌ بعيدة. والجنودُ يتفاخرون بقوتهم، يحملون العُدد ويعدّون الساعات للوصول إلى مكة. كان بعض العرب في الطريق يحاولون صدَّ الجيش فلا يفلحون.
قالت الجدة:
“يا صغاري، إن القوة ليست في كِبَر الأجسام، بل في عدل المقصد. وكم من ضعيفٍ نصره الله حين صدق قلبه”.
اقترب الجيش من مكة، فأخذ الجنود إبلًا لأحد أسيادها، وهو عبد المطّلب، جدّ الرسول عليه السلام. فعندما علم هذا الأخير بما حدث لإبله، ذهب إلى قائد الجيش ليستعيدها، وهنا تعجب القائد وقال:
“جئتُ لهدم البيت وأنت تسألني عن الإبل؟” فأجابه عبد المطّلب بحكمةٍ مشهورةٍ عند العرب: “أنا ربُّ الإبل، أمّا البيت، فله ربٌّ يحميه”.
وبعد لقاء عبد المطلب بالقائد، عاد إلى أهله ثابتًا كالجبال. جمع الناس وذكّرهم بحُسن التوكل، وأمرهم بردّ المظالم فيما بينهم، فالقلوب النظيفة تستحق النصر. قال: إذا ضاع لكم حق، فاطلبوه بأدب، وإذا قدرتم فاعفوا؛ فالصفح يجمع الشمل ويجعل الدعاء أقرب استجابة.
ساعةُ القرار

لمّا أقبل الجيش على مكة، خرج أهل البلد إلى الجبال القريبة يتحصّنون هناك، يراقبون ما سيجري والقلوبُ معلّقةٌ بالدعاء. لا سيوف تكفي، ولا رماح تغني، فالقضية أكبر من قوة البشر.
أراد الجنود دفع الفيل العظيم نحو الكعبة، لكن الفيل امتنع. كانوا يوجّهونه صوبها فيستعصي، فإذا صرفوه عن جهة البيت، هرول… ضربوه وحاولوا إرهابه فلم ينهض إلى ما يريدون، بدا أن في قلب ذلك الحيوان خشيةً لا تُفسَّر.
العبرة تتشكل شيئًا فشيئًا: ليس كلُّ أمرٍ يُقاس بالعدد والعتاد؛ فالله إذا قال للشيء “كن” كان. والأعين في الجبال تترقب، والريح تحمل همسًا: “للبيت ربٌّ يحميه”.
وعندما رأى الناس امتناع الفيل، تعجبوا من رحمةٍ أودعها الله في قلب حيوانٍ عظيم. ربما لا يفهم الفيل لغتنا، لكنه أدرك قدسية المكان. تذكروا أن للقلوب بوصلاتٍ خفية؛ تهديها الفطرة إن صفَت، وتردعها إن تجاوزت. لذلك اسألوا قلوبكم قبل أقدامكم. فالنية مرساةٌ، والمرساة تحفظ السفينة من العواصف دومًا.
الطيرُ الأبابيل وحجارةٌ من سِجّيل

ثم جاء الفرج على هيئةٍ لم تخطر لأحد. رفعت الجدة يدها كما لو أنها تُشير إلى السماء وقالت:
فإذا بطيرٍ أبابيل، أسرابًا فوق أسراب، كالغيم المتماسك، يحمل كلُّ طيرٍ حجارةً صغيرةً من سِجّيل. كانت الحجارة تبدو بلا شأن، لكنها بأمر الله تصيبُ فتُهلِك. تساقطت الحجارة على جيش أبرهة، فتفرّقوا مذعورين، لا يدرون كيف يدفعون عن أنفسهم هذا البلاء. كلّما حاولوا التقدّم، ردّتهم الضربة، وكلما لجؤوا إلى الهرب، أدركتهم المصيبة.
وواصلت الجدّة القول:
“هكذا يحفظ الله بيته، وهكذا يُري البشر أن القوة ليست فيما نراه بأعيننا فقط. فهناك قوة الأمر الإلهي، الذي لا يُغلب”.
وانتهى أمرُ الجيش إلى هزيمةٍ نكراء، وعاد من نجا منهم بالخبر الخالد: أن الكعبة محفوظةٌ بحفظ الله، وأن أبرهة ومن معه كانوا كالعُصفور المأكول؛ كالتبن الممزّق تتلاعب به الرياح.
ورفعت الجدة صوتها بتلاوةٍ ندية تقرأ سورة الفيل:
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمۡ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَٰبِ ٱلفِيلِ (1) أَلَمۡ يَجعَل كَيدَهُمۡ فِي تَضلِيل (2) وَأَرۡسَلَ عَلَيهِمۡ طَيرًا أَبَابِيلَ (3) تَرۡمِيهِم بِحِجَارَة مِّن سِجِّيلٖ (4) فَجَعَلَهُمۡ كَعَصفٖ مَأكُولِ (5)
سورة الفيل
ثم قالت أخيرًا: الدرس ليس في الحجارة وحدها، بل في طاعة المخلوقات لأمر ربها. فإذا التزم الصغير بما أمر الله، صار أقوى من جيشٍ كاملٍ أراد ظلمًا وعدوانًا. والعدل نور، ومن سار خلف النور لم يضل.
اقرأ المزيد من القصص الدينية للأطفال.
مكةُ آمنةٌ بفضل ربِّها

هدأ الغبار، وعاد أهل مكة من الجبال، ينظرون إلى الكعبة بعين الشكر. لم يُسجَّل نصرٌ لسيفٍ ولا لرمح، بل لقدرٍ جاء من السماء. تذكّروا، يا أحبتي:
- أن الله يحفظ ما شاء، وكيف شاء.
- وأن الغرور بابُ الخسارة، والتواضع طريقُ النجاة.
تألّقت عيون الصغار، وسأل أصغرهم: “يا جدتي، هل كانت الحجارة كبيرة؟” ضحكت: “لا يلزم أن تكون كبيرة لتكون قوية، المهم أنها جاءت بأمر الله. ولو شاء لجعلها نَسمةَ هواءٍ تهدم جبالًا”.
ثم أردفت تقول: “هذه سورة الفيل تُتلى إلى اليوم، تذكّرنا أن للبيت ربًّا يحميه، وأن من أراد الاعتداء على الحقّ خسر، ولو بدا قويًّا. فكونوا دائمًا مع الحق، وأحسنوا الظنّ بالله، واطلبوا العزّة في طاعته، تجدوا السلام في قلوبكم”.
الدرسُ الذي لا يشيخ
قالت الجدة في خاتمة حديثها:
“يا صغاري، لو جمع الناسُ أقوى الجيوش وأضخم الفيلة، فلن يستطيعوا أن ينالوا مما حفظه الله. القوة ليست عدوًّا، لكنها تصير شؤمًا إن حُمِلت على الظلم. أما إذا تسلّحت بالعدل والرحمة، صارت نعمةً وسلامًا”.
هزّ الأطفال رؤوسهم فهمًا، وأخذ كلٌّ منهم يعيد في قلبه مشهد الطير الأبابيل، والحجارة الصغيرة التي بدّدت جبروتًا كبيرًا. قالت الجدة: “
كلما سمعتم سورة الفيل، تذكّروا أن العبرة ليست في الحكاية وحدها، بل في الإيمان الذي يصنع في قلوبنا سكينةً وثقةً بربٍّ لا يخذل عباده”.
أطفأت الجدة قصّتها، وتفرّق الأطفال بين عائد إلى أهله، وآخر يتمشّى في أرضية الحرم المقدّسة، وبقي نور القصّة ساطعًا في أعماق كلّ منهم، يضيء لهم دربهم، ويرشدهم إلى سبل الخير.
استمع الآن إلى قصّة أصحاب الفيل على يوتيوب.