حكاية بذرة: قصة تعليمية للأطفال عن دورة حياة النبات

ماذا تعرف عن بذرة النباتات؟ هل تعلم كيف تتحوّل هذه الحبّة الصغيرة إلى نباتات جميلة متنوعة؟ لنقرأ معًا قصّة مرح، ونعش معها حكاية البذرة، نتعرّف من خلالها على دورة حياة النباتات بأسلوب مشوّق وممتع.

بذرة في الظلام

بطلة قصّتنا اليوم اسمها مرح، كانت طفلة في العاشرة من عمرها، تعيش في بيت جميل تحيطه حديقة صغيرة مليئة بالأزهار والنباتات المتنوّعة. كانت مرح تقضي الكثير من وقتها في هذه الحديقة ترسم تحت ظلّ شجرة التفاح، أو تسقي النباتات مع والدها، وكثيرًا ما كانت تطرح على والديها أسئلة حول أسماء النباتات، وكيفية نموّها وتحوّلها إلى ثمار مختلفة، بعضها لذيذ يُؤكل والبعض الآخر ذو رائحة عطرة يوضع في مزهريّات للزينة.

في أحد الأيام، قرّر والد مرح أن يساعد ابنته الصغيرة على اكتشاف سرّ النباتات، ولكن بطريقة ممتعة مسليّة. فقال لها وهو يقدّم إليها كيسًا صغيرة:

_ يحتوي هذا الكيس على بذور متعدّدة يا مرح، بعضها سيصبح أزهارًا ملوّنة، والبعض الآخر خضروات لذيذة، وبعضها أعشاب عطرية نضعها في الشاي، فما رأيك أن تزرعيها بنفسك وتراقبي نموّها.

فتحت مرح الكيس بفضول،كانت بعضها كبيرة، وبعضها صغيرة جدًا، وبعضها مستدير، وآخر طويل. تأمّلتها باهتمام قالت وهي تضعها في يدها:

_ ولكن كيف يمكن لهذه البذور الصغيرة جدًّا أن تتحوّل إلى نباتات؟!

ابتسم الأب بحنان، وأجاب قائلاً:

_ اسأليها بنفسك، وراقبيها جيّدًا لتعرفي الجواب!

_ كيف ستصبحين نباتات أيّتها البذور؟!

لكن البذور لم تُجب، فهي كانت ما تزال نائمة.

وبتوجيه من الأب، حفرت مرح حفرًا صغيرة في التربة، ووضعت البذور فيها برفق ثمّ غطتها بالتراب. حرصت على أن تضع كلّ مجموعة من البذور المتشابهة قريبة معًا حتى لا تشعر البذور بالوحدة، ثمّ سقتها بالماء وتركتها.

وهنالك في ظلام التربة الرطبة شعرت الذور بالراحة، كأنّها تحت بطانية دافئة. مرّ يومٌ بعد يوم، ومرح تواظب على ريّ البذور كلّ صباح. كانت تقف أمامها وتحدّثها قائلة:

_ أنا بانتظارك يا بذوري الصغيرة الجميلة…

في داخل التربة، بدأت البذور تشعر بتغيُّرٍ غريب؛ دخل الماء من قشرتها، وانتفخت قليلًا، ثم بدأت القشرة تتشقّق رويدًا رويدًا. قالت بذرة في نفسها:

_ ماذا يحدث لي؟ هل أنا أكبر؟ هل حان وقت الاستيقاظ؟

من الظلام، خرج خيط أبيض صغير من أسفل كلّ بذرة، كان ذلك أوّل جذر لها. بدأ الجذر يتسلّل إلى أسفل، يبحث عن الماء والغذاء في التربة. وفي نفس الوقت، بدأت من أعلى البذور نقطة صغيرة خضراء تدفع التراب لتخرج إلى الأعلى.

اقرأ أيضًا: المهندسة نملة| قصة ممتعة عن حياة النمل وتنظيمه

الحديقة تستيقظ

في صباحٍ مشمس، خرجت مرح كالمعتاد إلى الحديقة لتتفقّد نباتاتها، وفرحت كثيرًا عندما رأت شيئًا صغيرًا يطلّ من التربة. اقتربت بحماس، فإذا بها ترى نباتات صغيرة تطلّ من التربة، بعضها كان له ورقة واحدة، وآخر ورقتان، براعم صغيرة جدًّا مختلفة الأشكال.

صاحت مغتبطة:

_ انظري يا أمي! لقد استيقظت حديقتي!

سمعتها البراعم الصغيرة، وشعرت بالفخر، فقالت بلغة لا تفهمها إلاّ النباتات:

_ شكرًا لك يا مرح! لقد سقيتنا وحميتنا…سنكبر الآن ونكون نباتات متنوّعة تزيّن حديقتك!

كانت النباتات ما تزال ضعيفة، سيقانها نحيفة، وجذورها صغيرة. لكنها بدأت تتعلّم تدريجيًا كيف تعيش فوق سطح الأرض.

قالت التربة:

_ أنا سأمنحك الماء والغذاء، يمكنك الحصول عليه من جذورك الصغيرة التي ستصبح أقوى وأكبر.

وقالت الشمس من بعيد:

_ وأنا سأعطيك الدفء والضوء الذي سيحوّل الماء والأملاح إلى غذاء مفيد لتكبري.

أما الهواء من حولها فقال:

_ سأعطيكِ الهواء الذي تحتاجينه لتنمو أوراقكِ ولكي تشعري بالقوة.

فهمت النبتة أنّها تحتاج إلى أربعة أشياء مهمّة لتكبر:
الماء – الهواء – ضوء الشمس – والتربة الجيدة.

مع مرور الأيام، تغيّر شكل النبتة؛ أصبحت جذورها أطول وأقوى في باطن الأرض، وساقها اشتدّ وارتفع أكثر، وظهرت أوراق جديدة أكبر وأعرض. كانت مرح تقف أمامها كلّ يوم تراقب، وتقول:

_ في الأسبوع الماضي كانت صغيرة جدًّا… الآن أصبحت أطول!

ومع مرور الأيام أصبح للنباتات أشكال مختلفة، بعضها تحوّل إلى شتلات طمام ذات أوراق كثيرة. وأخرى صارت نباتات نعناع فوّاحة ذات رائحة طيبة.

فهمت مرح أنّ كلّ هذه النباتات كانت في البداية بذورًا ساكنة، لكن الآن كلٌّ منها يتّخذ شكلًا مختلفًا وطريقة خاصة في النمو، مع أنّ حاجتها الأساسية واحدة.

أزهار، ثمار، وبذور جديدة

مرّت الشهور، ومع العناية والريّ المنتظم، كبرت النباتات التي زرعتها مرح كثيرًا. أصبح لها سيقان قوية، وأوراق كثيفة خضراء. ولاحظت مرح في أحد الأيام شيئًا جديدًا بين الأوراق:

_ ما هذا؟! هناك شيء صغير ملوّن!

اقتربت فرأت برعمًا صغيرًا مغلقًا، كأنه هدية ملفوفة. وبعد أيام قليلة أخرى، انفتح البُرعم وتحوّل إلى زهرة جميلة بأوراق ملوّنة. تنفست النبتة بعمق وقالت:

_ أخيرًا أصبحتُ زهرة كاملة!

راحت النحلات والفراشات تزور الزهرة، تنتقل من زهرة إلى أخرى في الحديقة، تحملُ معها حبوب اللقاح من نبتة إلى أخرى لتساعدها على تكوين بذور جديدة. كانت النباتات تشعرُ بالدغدغة اللطيفة عندما تهبط عليها النحلة. بعد فترة، بدأت أوراق الزهرة الملونة تسقط واحدة تلو الأخرى، تعجّبت مرح وشعرت بالحزن، نباتاتها تذبل، فهرعت إلى أبيها تخبره بما رأت.

ابتسم الأب وقال بلطفٍ موضّحًا:

_ لا تقلقي يا صغيرتي، نباتاتُك بخير، ولكن لا بدّ للزهور أن تسقط حتى تتيح للثمرة أن تنمو وتنضج. الكثير من الأزهار تتحوّل إلى ثمار تحمل بذورًا جديدًا. هكذا تعيش النباتات، وتتكرّر حياتها مرّة بعد مرّة.

انتظرت بضعة أسابيع حتى نضجت ثمرة الطماطم التي زرعتها، فقطفتها بحذر، وفتحتها مع أبيها. في الداخل رأت بذورًا كثيرة تشبه البذرة الأولى التي زرعتها منذ مدة. أمسكت مرح بإحدى تلك البذور وقالت بدهشة:

_ يعني هذه البذرة كانت… في بطن نبتتي؟

ضحك الأب وقال:

_ نعم، هي كانت جزءًا من الزهرة التي أصبحت ثمرة، والآن يمكن أن نزرعها لنحصل منها على نبتة طماطم جديدة.

كانت النباتات الأخرى قد مرّت بمراحل مماثلة:

أزهار الفليفلية القزمية تحولت إلى حبّات فليفلة خضراء وحمراء وصفراء حلوة.

دورة لا تنتهي

في أحد الأيام، قبل أن يحل المساء بقليل، جلست مرح مع أسرتها في الحديقة، والهواء عليل ورائحة النباتات تملأ المكان. نظرت مرح إلى النباتات التي زرعتها منذ أشهر وقالت:

_ لقد فهمتُ الآن حكاية البذرة من البداية: أولًا: تكون بذرة صغيرة نائمة، نضعها في التربة ونغطيها لتشعر بالدفء، ونسقيها، فتشرب الماء وتستيقظ، ويخرج منها جذر إلى الأسفل، وساق وأوراق إلى الأعلى… تكبر وتكبر حتى تُخرج أزهارًا جميلة، ثم تتحول الأزهار إلى ثمار أو حبوب، فيها بذور جديدة.

أكملت أمّها قائلة:

_ وهذه البذور الجديدة يمكن أن نزرعها مرة أخرى، فتبدأ دورة حياة جديدة لنبات جديد.

أخذت مرح بعض البذور التي خرجت من ثمار نباتاتها التي زرعتها سابقًا، وقرّرت أن تزرعها في الحديقة أيضًا، لتبدأ حكاية جديدة. حفرت حفرة صغيرة في التربة، ثمّ قالت للبذور وهي تضعها برفق:

_ لا تخافي من الظلام أيّتها البذور الصغيرة، ستخرجين يومًا إلى النور، وتصبحين نباتات جميلة.

أزهار الليمون القزمي تحوّلت هي الأخرى إلى حبات صغيرة من الليمون صفراء ذات رائحة منعشة.

نبتة النعناع لم تُخرج ثمارًا كبيرة، لكنها كوّنت بذورًا دقيقة تتناثر مع الهواء لإنتاج نباتات جديدة.

هكذا فهمت مرح أن لكلّ نبتة طريقتها في حمل البذور وحمايتها، لكن الهدف واحد: أن تبدأ حياة جديدة من بذرة جديدة.

ابتسم والدها وقال:

_ أحسنتِ يا مرح. عندما نفهم دورة حياة البذرة، نتعلم أيضًا أن نحترم النباتات، فلا نكسر أغصانها، ولا نُهمل ريّها، ولا نرمي القمامة في التربة التي تعيش فيها.

شعرت مرح بالامتنان، ولم تعد ترى البذور أشياء صغيرة بلا قيمة، بل صار لكلّ شيء في الحديقة قصة مشوقّة:

هذه الشجرة الكبيرة كانت يومًا بذرة صغيرة مثل التي في يدها الآن.

وهذه الأزهار الملوّنة كانت براعم خجولة اختبأت بين الأوراق.

وتلك السنابل الذهبية في الحقل بدأت حبوبًا دقيقة تحت الأرض.

نظرت مرح إلى حديقتها وقالت في سرّها:

_ ما أجمل أن أرى الحياة تبدأ من بذرة! كلّ نبتة هنا هي بطلة لها حكايتها الخاصّة، وأنا جزء من هذه الحكاية، أحمي النباتات وأساعدها لتكبر وتنمو من جديد.

تصفّح المزيد من القصص التعليمية للأطفال على موقع حدّوتة.

تصفّح المزيد من القصص القصيرة للأطفال.

قصص شعبية مضحكة: عنتر واليقطينة والجوز

قصة شعبية جديدة من قصص التراث العربي العريق، نعيش فيها مغامرة عنتر، الرجل الطيب البشوش، مع يقطينته الكبيرة التي أهداه إيّاها العمّ سالم. فما الذي سيفعله بها يا ترى؟ وما الحكمة التي سيتعلّمها من اليقطين والجوز يا ترى؟ اقرأ القصّة الآن واكتشف ذلك!

اليقطينة الكبيرة

في صباحٍ خريفيّ لطيف، خرج عنتر يتمشّى عند أطراف القرية. كان يحبّ هذه النزهات، يتأمّل الحقول، ويحادث نفسه بأفكارٍ غريبة تضحكه قبل أن تضحك غيره.

وبينما هو يسير في دربه منغمسًا بأفكاره الطريفة، لفت نظره شيءٌ كبير برتقالي اللون عند طرف الحقل، فسار نحوه بخطى حذرة، وتوقّف عنده، قرّب عينيه، ثم قال بدهشة:

_ يا سلام! هل هذه يقطينة أم صخرة؟

كانت يقطينة ضخمة، أكبر من كلّ اليقطين الذي رآه في حياته. دار حولها، وربّت عليها بعصاه، ثم ابتسم وقال:

_ لو دحرجتُها قليلًا، لظنّها الناس عربة!

اقترب صاحب الحقل، العمّ سالم، وقال ضاحكًا:

_ هذه أكبر يقطينة زرعتها هذا العام.

هزّ عنتر رأسه بإعجاب:

_ واضح أنها أكلت حصّتها وحصّة غيرها!

ضحك العمّ السالم، وأجاب قائلاً:

_ هاهاهاها… محقّ في ذلك يا عنتر، ولأنّك خفيف الظلّ والروح، فسوف أقدّمها لك كهدية.

فرح عنتر كثيرًا بما سمعه، وشكر العمّ سالم على كرمه، ثمّ وقف أمام اليقطينة محتارًا يفكّر كيف يحملها معه إلى المنزل، وما سيفعله بها:

مرّ بعض الأطفال بعنتر ويقطينته، فالتفّوا حولهما مدهوشين. وقال أحدهم:

— هل ستأكلها وحدك يا عنتر؟

ضحك وقال:

— لا تقلقوا، سأحتاج القرية كلّها لتساعدني!

شجرة الجوز

دحرج عنتر اليقطينة الضخمة أمامه عائدًا إلى القرية، يتبعه الأطفال والعمّ سالم الذي كان هو الآخر ذاهبًا إلى السوق لبيع يقطيناته الأخرى الأصغر حجمًا. وبعد بعض الوقت شعروا جميعًا بالتعب، فقرّروا أخذ قسط من الراحة، وجلسوا تحت ظلّ شجرة جوز كبيرة. رفع عنتر رأسه ونظر إلى الأغصان العالية، فرأى حبات الجوز الصغيرة تتدلّى منها. فكّر برهة ثم قال متسائلاً:

_ عجيب أمرُ الدنيا… الجوز صغير لكنه فوق الشجرة، واليقطينة كبيرة لكنها على الأرض.

_ ولماذا هذا عجيب؟

سأل أحد الأطفال بفضول. فكّر عنتر قليلًا وردّ:

_ تخيّلوا لو كان العكس! يقطينة فوق الشجرة… ماذا سيحدث؟

اتّسعت عيون الأطفال:

_ ستسقط!

ابتسم عنتر:

_ بالضبط… وستكون مشكلة كبيرة.

وبينما هم يتحدّثون، هبّت نسمة هواء قويّة، فاهتزّت أغصان الشجرة، وسقطت حبّة جوز صغيرة من الشجرة، وأصابت أنف عنتر برفق.

_ آخ!

وضع يده على أنفه، ثم نظر إلى الجوزة وقال:

_الحمد لله أنكِ صغيرة!

ضحك الأطفال، فقال عنتر وهو يبتسم:

_ الآن فهمت الحكمة. لو كانت اليقطينة فوق الشجرة، لما ضحكنا الآن!

ضحك العمّ سالم وقال:

_ هذا صحيح، فالله يضعُ كلّ شيءٍ في مكانه المناسب.

أومأ عنتر موافقًا:

— نعم، وأحيانًا نحتاج تجربة صغيرة لنفهم ذلك.

قوارب اليقطين والجوز

يبدو أنّ الاستراحة تحت شجرة الجوز، اوحت لعنتر بفكرة ذكية. فنهض فجأة وقال بحماس:

_ ما رأيكم أن نصنع شيئًا ممتعًا بهذه اليقطينة، وفي الوقت ذاته نسهّل وصولها إلى القرية!

_ ماذا سنفعل بها؟

سأل أحد الأطفال بفضول. فردّ عنتر:

_ سأربطها بحبل، وأضعها في النهر، مجرى النهر يمضي باتجاه القرية، وهكذا أرتاح من دحرجتها، ونحصل على قارب يقطين نستمتع بمشاهدته يبحر في النهر.

ضحك الجميع من هذه الفكرة الطريفة، ولكن الذكيّة في الوقت ذاته، وشجّعوا عنتر على تنفيذها. فأخرج حبلاً كان يحمله معها وربط اليقطينة بإحكام، ثمّ رماها في النهر وأمسك بطرف الحبل حتى لا تضيع منه. طفت اليقطينة بهدوء وراحت تنساب على سطح الماء بكلّ سهولة باتجاه القرية.

استمتع الأطفال برؤيتها تبحر بهدوء، وجمع بعضهم حبّات الجوز المتساقطة من على الشجرة، فقاموا بتفريغها ووضعوا القشر على صفحة الماء أيضًا. وما هي إلاّ لحظات حتى أصبح لديهم أسطول من القوارب الصغيرة، يرافق اليقطينة الكبيرة.

_ قوارب الجوز ترافق سيادة اليقطينة اللذيذة إلى القرية!

قال أحد الأطفال مستمتعًا ووافقه عنتر، وضحك البقية مستمتعين بهذا المنظر الطريف.

_ ستحظى القرية اليوم بوليمة يقطين شهيّة حقًا.

علّق عنتر. وواصل الموكب المسير عائدًا إلى القرية يغنون أناشيد تراثية عن الحقول والمزارع ومواسم الجوز واليقطين.

وليمة اليقطين وكعكة الجوز

مع غروب الشمس، وصل عنتر والأطفال والعمّ سالم إلى القرية. قال العمّ سالم:

_ أتيتُ لأبيع اليقطين، لكنّ الليل قد حلّ الآن، سأعود خالي الوفاض.

فردّ عليه عنتر:

_ لقد تأخّرت عن الوصول بسبب حديثنا ولهونا في الطريق، فما رأيك أن تشاركنا وليمة الليلة، سنطبخ اليقطينة التي أهديتني إياها، ونصنع من هذا الجوز كعكة لذيذة، ونتسامر طوال الليل. يمكنك أن تبيت في منزلي، وغدًا تبيع يقطينك الذي أحضرته.

وافق العمّ سالم على هذه الفكرة الرائعة، واجتمعت نسوة القرية قرب الساقية. أشعل الأطفال فوانيس صغيرة، وجلسوا يشاهدون القوارب وهي تتمايل على سطح الماء. أحضرت النساء قدورًا، أشعل الرجال النار، وراحت النسوة يقشّرن اليقطينة الكبيرة ويقطّعنها قطعًا صغيرة لإعداد الحساء.

ما هي إلاّ لحظات حتى انتشرت رائحة طيبة ملأت القلوب بالدفء. وبعد نحو ساعة، أصبح العشاء جاهزًا. تحلّق الجميع حول قدر الحساء، يستمتعون بطبق اليقطين الشهي. ويستمعون إلى مغامرة عنتر مع اليقطين والجوز.

قال عنتر:

_ تعلّمتُ اليوم حكمة مهمّة، يجب علينا ألاّ نتسرّع في الحكم على الأشياء، لقد تسرّعت في الحكم على الجوز الذي ينبتُ فوق الشجر بدلاً من الأرض. وعلى اليقطين الذي لا ينمو على أغصان الشجر، لكن، لو كان الأمر كذلك، لكنتُ الآن بلا أنف!

ضحك الجميع عند هذه الكلمات، ووافقوا على ما قاله عنتر، نعم…فلكلّ شيء حكمة، والكون خُلق في أحسن صورة له، تمامًا كما شاء له الله جلّ وعلا.

وهكذا قضى عنتر وأهل القرية الليلة حول النار يتسامرون ويتبادلون الحديث مستمتعين بكعك الجوز، وبذور اليقطين المحمّصة، وأجواء الخريف الجميلة.

هل أعجبتك مغامرة عنتر؟ اقرأ أيضًا قصّة مراهنة عنتر الطريفة

مراهنة عنتر| قصص شعبية مضحكة للأطفال

مراهنة عنتر هي حكاية تراثية فكاهية مليئة بالحيلة والذكاء، حيث يخدع عنتر أهل قريته في مراهنة طريفة حول حماره، ليعلّمهم أن العقل يمكنه تحويل المستحيل إلى ممكن. لنقرأها معًا ونستمتع بطرافة عنتر ودهائه!

بهجة عنتر

في إحدى القرى الصغيرة، كان عنتر يسير في السوق بخطواتٍ بطيئة وهو ينظر إلى الوجوه الضاحكة والباعة الذين ينادون بأعلى أصواتهم:

– تفاح طازج! برتقال حلو مثل العسل!

– عندنا خبز ساخن للتو من التنور!

كان السوق مزدانًا بالألوان كمهرجان: أقمشةٌ حمراء كالورد، وخضروات صفراء وحمراء وخضراء، وحلويات تتلألأ كالمجوهرات. وأصوات الباعة تتمازج كموسيقى حيوية تعزفها الحناجر.

أما عنتر فكان بلباسه المميز: يرتدي جُبّة واسعة زرقاء، ويشد وسطه حزامًا عريضًا أحمر، وعلى رأسه عمامة كبيرة ملفوفة بعناية. لحيته قصيرة سوداء، وشاربه عريض يزيد من طرافة ابتسامته. وجهه دائري يشع بالمرح، وعيناه تلمعان ببريق الذكاء وسعة الحيلة. في يده كيس صغير لا يحتوي إلا على بعض النقود القليلة.

نظر حوله مبتسمًا وقال في نفسه:

_ يا سلام! كل شيء هنا يبدو لذيذًا، لكن نقودي قليلة، لا تكفي إلا لشراء شيء بسيط. ومع ذلك، عنتر لا يستسلم أبدًا!

اقترب منه صديقه القديم حسن وقال له مازحًا:

– يا عنتر، ألا تملّ من التجوال في السوق من غير شراء؟

ضحك عنتر وردَّ:

– ومن قال لك إني لا أشتري؟ أنا أشتري الضحكات والنكات من وجوه الناس، وهذه لا تحتاج نقودًا!

ضحك حسن، وأضاف:

– أتعرف؟ إنك لو اشتركت في مسابقة للضحك لربحت الجائزة!

ابتسم عنتر وقال:

– فكرة جيّدة! لكن ماذا عن مسابقة للعقل والحيلة؟ هل تظنني سأخسرها؟

وبينما كانا يتحدّثان، مرّت امرأة تحمل سلة تفاح توقفت عند سماع جملة عنتر حول الضحكات، وقالت:

_ لو كان عندي نصف بهجة عنتر لامتلأ السوق سعادة!

فضحك عنتر بدهاء، وما لبثت ضحكاته تنتقل إلى الباعة وروّاد السوق، وتساءل في حينها أصحاب المتاجر حول بهجته التي تشع في كل مكان يحلّ فيه.

مراهنة عنتر: الفكرة

جلس عنتر مع أصدقائه في المقهى الشعبي بعد الظهر يشربون الشاي ويأكلون الفول، وفجأة قال أحدهم:

– يا رجال، لماذا لا نختبر ذكاء عنتر؟

رفع آخر حاجبيه وقال:

– وكيف نختبره؟

فكّروا قليلًا، ثم اقترح أحدهم:

– لنعطِه تحدّيًا صعبًا، ونرى إن كان سينجح فيه أم لا!

نالت الفكرة إعجاب البقية، واتفقوا فيما بينهم على شروط التحدّي الذي أطلقوا عليه اسم “مراهنة عنتر”، ثمّ التفت أحدهم إلى عنتر وقال:

– اسمع يا عنتر، نريد أن نتحدّاك في أمر. إن ربحتَ أعطيناك طعامًا لذيذًا من المطعم الكبير، وإن خسرت، فعليك أن تنظف المقهى كله ليومٍ كامل.

رفع عنتر رأسه وضحك قائلًا:

– وهل أضيّع فرصة كهذه؟ طبعًا أوافق! فما هو التحدّي؟

قالوا:

– نحن نتحدّاك أن تجلب لنا حمارك، وتجعل هذا الحمار يضحك أمامنا!

ضحك الجميع بصوت عالٍ وهمس آخرون:

– مستحيل! الحمار ينهق، لكنه لا يضحك.

أما عنتر فابتسم ابتسامة غامضة وقال:

– أعطوني يومًا واحدًا فقط، وغدًا تعالوا وشاهدوا حمارًا يضحك تمامًا كالبشر.

انتشر خبر مراهنة عنتر كالنار في الهشيم في القرية حتى إن بعض النساء قُلن:

_ لن نضيّع الغد، سنأتي لنرى ما سيصنعه عنتر!

فيما كان بعض الرجال يهزّون رؤوسهم قائلين:

_ هذه المرّة سيقع عنتر في ورطة حقيقية.

وفي غضون ساعات، تحوّلت مراهنة عنتر الذي بدأت على شكل طرفة بين مجموعة أصدقاء، إلى حدث جلل تنتظره القرية بأكملها، ويترقّبه جميع سكّانها.

عنتر والحمار

عاد عنتر إلى بيته وهو يضحك في نفسه… كان حماره مربوطًا أمام البيت، يأكل بعض التبن بهدوء، وقف جحا أمامه وقال:

– أيها الحمار الطيب، غدًا علينا أن نُثبت للناس أنك لست مجرد حمار عادي، بل حمارٌ ذكي يَضحك ويُضحك!

حدّق الحمار في جحا بعينيه الواسعتين ولم يفهم شيئًا بالطبع. فابتسم عنتر وربت على رأسه:

– لا تقلق، لدي خطة!

دخل عنتر إلى المطبخ، وأحضر قليلًا من الفلفل الأحمر الحار. ثم قال:

– غدًا، عندما أضع هذا الفلفل قرب فمك، ستفتح فمك وتحرّك شفتيك وتُصدر أصواتًا مضحكة كأنك تضحك! وسيرى الجميع أنك ضحكت بالفعل!

ضحك عنتر وحده حتى دمعت عيناه وقال:

– آه يا عنتر، أنت حقًّا عبقري!

اقترب من الحمار وهمس له:

_ لا تخف، لن أجعلك تأكل إلا قليلًا جدًّا، فقط ما يكفي للعرض، وبعدها سأعطيك ألذّ جزرة في القرية.

هزّ الحمار أذنيه وكأنه يوافق على الصفقة!

لحظة التحدي

جاء يوم مراهنة عنتر أخيرًا، واجتمع أهل القرية في المقهى. جاء حسن والأصدقاء الذين وضعوا الرهان، وجاء الأطفال أيضًا ليشاهدوا. كان الجميع متحمّسًا لرؤية ما سيفعله عنتر.

دخل عنتر وهو يقود حماره بفخر، وقال:

– ها هو حمار عنتر، سيضحك أمامكم بعد قليل!

ضحك الناس وسخروا:

– هل جننت يا عنتر؟ من رأى حمارًا يضحك؟

أخرج عنتر من جيبه قطعة صغيرة من الفلفل ووضعها في فم الحمار، ما إن ذاقها الحمار حتى بدأ يفتح فمه بسرعة ويحرك شفتيه ويُصدر أصواتًا غريبة، فظنّ الناس أنه يضحك!

انفجر الجميع بالضحك والتصفيق وقالوا:

– انظروا! الحمار يضحك حقًّا!

أما عنتر فجلس بكل فخر على كرسي وقال:

– ألم أقل لكم؟ عنتر لا يخسر التحدّيات!

صفّق الصغار وقفزوا حول الحمار، وقال رجل عجوز: «لم أرَ في حياتي شيئًا كهذا!» ووقف بعض الغرباء الذين مرّوا بالسوق ليروا المشهد، صار عنتر نجم القرية في دقائق معدودة!

المفاجأة الثانية

ظنّ الأصدقاء أن الأمر انتهى، لكنهم لم يستسلموا. قال أحدهم:

– لقد ربحت هذه المرة يا عنتر، لكن لدينا لك تحدٍّ أصعب: هل تستطيع أن تجعل حمارك يبكي أمامنا؟

ابتسم عنتر وقال:

– سهل جدًّا، أعطوني يومًا آخر فقط!

عاد عنتر إلى البيت، وأمسك بجرّة ماء بارد جدًّا، اقترب من الحمار وسكب قليلًا من الماء البارد على رأسه فجأة. ارتجف الحمار وهزّ رأسه، ثم أطلق صوتًا حزينًا كأنه يبكي.

ضحك عنتر وقال:

– غدًا سترون حمارًا يبكي كالأطفال!

في اليوم التالي اجتمع الناس من جديد، ونفّذ عنتر خطته، فبدأ الحمار ينهق بصوت حزين وعيونه تدمع قليلًا من الهواء البارد. صرخ الناس:

– يا إلهي! الحمار يبكي حقًّا!

ضحك الأطفال حتى وقعوا على الأرض، وصاح الكبار:

– عنتر لا يُهزم أبدًا!

وقال رجل غريب من قرية أخرى:

_ جئت أبيع قمحًا، فإذا بي أشاهد مسرحية مضحكة بالمجان!

فزاد الضحك أكثر وأكثر.

العبرة من مراهنة عنتر

بعد أن انتهت التحدّيات، جلس عنتر مع أصحابه وقال لهم مبتسمًا:

– أيها الأصدقاء، لم أربح المراهنة بالحمار فقط، بل أردت أن أعلّمكم شيئًا مهمًّا.

سألوه باستغراب:

– وما هو يا عنتر؟

قال:

– أحيانًا يظن الناس أن الأمر مستحيل، لكن بالعقل والفطنة يصبح ممكنًا. لا يمكن للحمار أن يضحك أو يبكي، لكنها حيلتي البسيطة! المهم أن لا نستهين بالعقل، وأن نعرف أنّ لكلّ مشكلة حلًّا.

– معك حق يا عنتر، أنت أذكى مما نظن!

ثم التفت عنتر إلى الأطفال وقال بلطف:

– تذكّروا يا أطفال، الضحك جميل إذا كان صافيًا لا يجرح أحدًا، والبكاء ليس عيبًا إذا كان يخفف الحزن. لكن الأجمل أن نستخدم عقولنا لنحوّل المشاكل إلى حلول. مثلما حولتُ أنا الحيلة الصغيرة إلى حكاية تفرح القرية كلها.

سأل أحد الصغار:

_ يعني إذا اختلفنا مع صديق، بإمكاننا أن نضحك معه بدل أن نغضب منه؟

ابتسم عنتر وقال:

_ بالضبط! الكلمة الطيبة تُضحك القلب، أما الغضب فيزيد الهمّ.

وأضاف:

_ وتذكّروا أنّ الحيلة لا تكون نافعة إلا إذا كانت بلا أذى، فالعقل الحقيقي هو الذي يجمع بين المرح والرحمة.

ومنذ ذلك اليوم صار أهل القرية يروون قصة «تحدّي عنتر» للأطفال، ليعلّموهم أن الذكاء والحيلة يمكن أن يتغلبا على أي تحدٍّ، وأن الضحك خير دواء للقلوب.

بل وصار الأطفال يقلّدون الحمار في ضحكه وبكائه كلما أرادوا المرح، فيضحك الكبار معهم، ويقولون: «حيلة صغيرة أضحكت القرية كلها!»

وهكذا ظلّت قصة عنتر تُروى جيلًا بعد جيل، ليس للضحك فقط، بل لتذكير الناس أن البهجة تصبح أجمل حين تمتزج مع الذكاء والطيبة.

هل أعجبتك هذه القصّة؟ اقرأ أيضًا قصّة نوادر جحا المضحكة

تصفّح أيضًا: قصة جحا والحمار

مغامرات الصغير الصائم: وليمة عند الجيران

لنشارك عُمر وليمة عند الجيران! يُقال إنّ الجار قبل الدار، وأنّ أجمل العطايا هي تلك التي نقدّمها ونحن في أمسّ الحاجة إليها. في قصّة اليوم، نرافق صديقنا الصغيرَ عُمر في رحلة إيمانية جديدة خلال شهر رمضان المبارك، لنتعلم معه معنى “الإيثار”، وكيف تتحوّل المشاركة البسيطة إلى بركة تملأ البيوت سعادة ودفئًا. فلنقرأ القصّة معًا!

الجيران الجدد

حلّ يوم جديد من أيام الشهر الفضيل، واستيقظ عمر باكرًا، ارتدى ملابسه، وحمل حقيبته على عجل متوجّهًا إلى المدرسة. كان سعيدًا جدًّا فقد اعتاد على الصيام، ولم تعد وحوش الجوع تخيفه كما كان الحال في أوّل يوم صومٍ له. وفيما كان يغادر المنزل، رأى شاحنة صغيرة تتوقّف أمام البيت المقابل لهم، وينزل منها رجل طيّب ومعه عائلته، زوجته وطفلان يماثلان عُمر في السنّ.

ثمّ راحت العائلة تُنزل حقائب وصناديق كبيرة من الشاحنة. وتُدخلها إلى البيت. قال عُمر محدّثًا نفسه:

_ يبدو أنّ جيرانًا جددًا قد انتقلوا إلى حيّينا….

ثمّ تابع مسيره إلى المدرسة. وهناك التقى بصديقيه، حسّان ولُمى، فأخبرهما عن الجيران الجدد.

قال حسّان:

_ نعم سمعتُ من أبي أنّ عائلة جديدة ستنتقل إلى الحيّ، يُقال أنّهم غرباء قد أتوا من بلد غير بلادنا.

وأضافت لُمى:

_ هذا صحيح، أنا أيضًا سمعتُ أمّي تحدّث جارتنا عنهم، تقول لها أنّهم قد مرّوا بأوقات صعبة قبل أن يصلوا إلى هنا.

قال عُمر:

_ علينا إذن أن نكون لطفاء معهم، ونصادق أطفالهم حتى لا يشعروا بالوحدة أو الحزن.

وهزّ كلّ من حسان ولُمى رأسيهما موافقين، ثمّ دخل الأستاذ سامي إلى الصفّ، وجلس كلّ في مكانه استعدادًا للدرس.

درسٌ عن الإيثار

كتب الأستاذ سامي على السبّورة عنوان الدرس:
“الإيثار والمشاركة”

ثم التفت إلى التلاميذ وقال:
– من منكم يعرف معنى الإيثار؟

رفعت لمى يدها وقالت:
– يعني أن أعطي غيري شيئًا أحبّه، وأقدّم حاجته على حاجتي.

ابتسم المعلّم وقال:
– أحسنتِ يا لمى. الإيثار هو أن تفكّر في غيرك قبل أن تفكّر في نفسك، خصوصًا إذا كان ما تعطيه له هو شيء تحبّه. وقد شجّعنا النبي  ﷺ على التحلّي بخلق الإيثار، إذ يقول عليه السلام في الحديث الشريف: “لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”.

نظر إلى التلاميذ وأضاف:
– والمشاركة قريبة من الإيثار، فهي أن نتقاسم النِعم مع الآخرين، فلا نأكل وحدنا وننسى من حولنا، ولا تنسوا أننا في شهر رمضان المبارك. في هذا الشهر، نُحبّ أن نطعم الجائعين، وأن نشارك الفقراء والمحتاجين بما نستطيع، وفي هذا أجر عظيم جدًّا.

كان عمر ينصت باهتمام. تذكّر العائلة الجديدة التي انتقلت إلى الحيّ، وتخيّل كيف يشعر الإنسان عندما يأتي إلى مكان جديد لا يعرف فيه أحدًا.

قال ياسين:
– يا أستاذ، قبل رمضان كنت أحضر معي إلى المدرسة طعامًا أحبّه جدًّا، وأرى أن صديقي قد نسي طعامه، فأفكّر: أأشاركه أم أحتفظ به لنفسي؟

ابتسم الأستاذ سامي وقال:
– تمامًا هذا ما أتحدّث عنه، إن شاركته طعامك، أو أعطيته الجزء الأكبر منه، فهذا إيثار. ستشعر بالجوع قليلًا، لكنّ قلبك يمتلئ سعادة.

ثمّ نظر إلى عمر وسأل:
– ماذا عنك يا عمر؟ متى تشعر أنّك تريد أن تشارك غيرك؟

فكّر عمر قليلًا وقال:
– عندما أرى شخصًا حزينًا أو محتاجًا، أشعر أنّ طعامي لا يكون لذيذًا إذا لم أشاركه وإذا شعرت أن غيري يشتهيه. لكن… أحيانًا أتردّد، خصوصًا إذا كان شيئًا أحبّه جدًّا.

ضحك التلاميذ، وقال الأستاذ:
– هذا طبيعي يا عمر، لهذا نحتاج أن نتعلّم ونعوّد أنفسنا على المشاركة، المؤمن يحاول أن يقاوم رغباته ويتخلق بالأخلاق الحسنة قدر استطاعته، والإيثار من هذه الأخلاق التي تحتاج جهدًا وتعويدًا.

قبل نهاية الحصّة قال الأستاذ:
– أريد من كلّ واحد منكم أن يقوم بعمل واحد على الأقلّ هذا الأسبوع، يشارك فيه غيره شيئًا يحبّه: طعامًا، لعبةً، وقتًا، أو مساعدة. ويبقي هذا العمل سرًّا بينه وبين الله، ولا يحدّث أحدًا به.

خرج عمر من الصفّ وهو يفكّر:
هل سأكون قادرًا حقًّا على هذا؟
لم يكن يعلم أنّ الفرصة قريبة جدًّا… أقرب ممّا يتخيّل.

الاستعداد للوليمة

مرّت بضعة أيّام على انتقال الجيران الجدد إلى الحيّ، وعلى المهمّة التي أوكل بها الأستاذ سامي لطلابه. كانت شمس العصر تميل نحو الغروب، والسماء مصطبغةٌ بلونٍ ذهبيّ هادئ، كأنّها تستعدّ لاستقبال أذان المغرب. في الحيّ، كانت رائحة الطعام تنتشر من النوافذ، وأصوات الأطباق تتعالى في كلّ بيت كالعادة، استعدادًا للإفطار.

أمّا عمر الصغير، فكان يقف عند النافذة، يراقب الشارع بهدوء، ويفكّر في عمل يمكنه القيام به ليشارك ما يملك مع الآخرين، حينما نادته أمّه من المطبخ:

– عمر! تعال ساعدني يا صغيري!

دخل مسرعًا إلى المطبخ، فوجد أمّه مشغولة بطبقٍ كبير من الأرزّ بالدجاج، مزّين بالمكسّرات، ورائحته طيّبة جدًّا.

سألها عمر:
– ما هذا الطبق الضخم يا أمّي؟ يبدو أشهى من المعتاد!

ابتسمت الأمّ وقالت:
– اليوم، سيكون إفطارنا في بيت جيراننا الجدد، عائلة أبي سليم. لقد اتفق جميع الجيران في الحيّ على أن يعدّ كلّ منهم طبقًا ويحضره إلى بيت العائلة الجديدة، لنتشارك معًا الطعام، ونتعرّف عليهم أكثر.

اتّسعت عينا عمر:
– وليمة عند الجيران؟ هذا رائع!

قال الأب وهو يدخل الغرفة:
– أخبرني جارنا أبو حسّان، أنّهم غرباء من بلد مجاور، وإمكانياتهم قليلة حاليًا، فقد لا يستطيعون تقديم الكثير. لذلك قرّرنا جميعًا أن نأخذ معنا إفطارنا حتّى لا نُثقل عليهم، ولنُشعرهم بجوّ العائلة. فنحن في هذا الحيّ عائلة واحدة كبيرة.

نظر عمر إلى الطبق مرّة أخرى، كان هذا الطبق من أحبّ الأطعمة إلى قلبه، وهو يحبّ أن يبقى منه لليوم التالي. شعر بصراعٍ صغير في قلبه.
قال بصوت خافت:

– وهل سنأخذ كلّ هذا الطبق إلى بيت الجيران؟

لاحظ الأب تردّده، فجلس بجانبه وقال بهدوء:

– نعم يا صغيري، سنتشاركه مع عائلة أبي سليم وبقيّة الجيران، وسيشاركوننا هم أيضًا طعامهم. ولأنّ ظروف العائلة الجديدة صعبة، فعلينا أن نتحلّى بخلُق الإيثار، ونقدّم حاجتهم إلى الدعم والوليمة على حاجتنا.

هزّ عمر رأسه وتذكّر كلام الأستاذ سامي، وتذكّر كيف طلب منهم أن يقدّموا شيئًا يحبّونه لغيرهم. واصل الأب:

– نحن اليوم أمام فرصة. هذا الطبق الذي تحبّه سيكون سببًا في إدخال السرور على قلوب جيراننا الجدد وبوابة للأجر والثواب، تخيّل شعورهم عندما يرَوْننا نشاركهم بهذا الكرم، وهم ما زالوا غرباء في الحيّ.

قالت الأمّ بلطف:
– وسأُعدّ لك في يومٍ آخر طبقًا تشتهيه أيضًا. لكنّ هذه الليلة قد لا تتكرّر.

ظلّ عمر صامتًا لحظة، ينظر إلى الطبق، ثمّ قال ببطء:
– حسنًا يا أمّي… لنأخذ الطبق كلّه معنا. أريد أن أكون من أهل الإيثار، مثلما تحدّث الأستاذ في الصفّ!

ابتسم الأب بفخر وربّت على كتف عمر:
– هذا هو ابني الصغير البطل، صاحب القلب الكبير.

ساعد عمر أمّه في تغطية الطبق، ووضعوا الحلوى في صندوق أنيق، واستعدّوا للذهاب. في الطريق إلى بيت الجيران، كان عمر يشعر بمزيجٍ من الحماس والفضول، وفي نفسه شيء من الندم لأنه ضحّى بطبقٍ يحبّه، لكنّه كان يحاول أن يركّز على القيمة العظيمة لما يفعله: أنا أشارك… أنا أؤثِر غيري على نفسي.

ثمرة الإيثار

اجتمع سكّان الحيّ جميعًا في الشارع المجاور، وارتسمت البهجة على كلّ من وجوه عُمر وحسّان ولُمى عندما التقوا مجدّدًا وأدركوا أنّهم سيتناولون اليوم الإفطار معًا. سار الجيران معًا إلى بيت أبي سليم، وطرق أبو عمر الباب بلطف. انتظر للحظات قبل أن تفتح أمّ سليم الباب، كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا، وعلى محيّاها ارتسمت تعابير متمازجة، من الطيبة والوقار، ولكن أيضًا كان على محيّاها إمارات واضحة من الحزن والوحدة.

تفاجأت كثيرًا حينما رأت الجيران يقفون عند بابها، وقالت لها أمّ عُمر بلطف:

_ من عاداتنا في هذا الحيّ أن نستقبل الجيران الجدد بوليمة نعدّها معًا ونتناولها في منزل العائلة الجديدة. فهلّا تسمحين لنا بالدخول؟

_ بالطبع، أهلاً وسهلاً بكم جميعًا، يسرّنا ويُسعدنا استضافتكم في منزلنا المتواضع.

دخل عمر مع والديه، فرأى غرفة جلوس متواضعة، لكنّها نظيفة ومرتّبة، وقد فرشت فيها مائدة صغيرة على الطاولة وفيها بعض الأطباق البسيطة: حساء، بعض الخبز، طبق من الأرزّ، وطبق صغير من السلطة.

ركض طفلان لاستقبالهم؛ صبيّ اسمه سليم، في سن عمر تقريبًا، وفتاة صغيرة اسمها سلمى. قال سليم:
– أهلًا وسهلًا بكم! نحن سعداء بقدومكم إلينا.

كان أبو سليم يجلس في زاوية الغرفة يقرأ ما تيسّر من آيات القرآن الكريم، وبادر على الفور بالترحيب بالجيران، وقد بدا عليه السرور والغبطة.

قال الأب وهو يضع الطبق الكبير على المائدة:
– ونحن سعداء أكثر بانضمامكم إلى حيّنا… بهذا تكبر أسرتنا وتتسع.

اقترحت أمّ سليم:

_ الجو جميل اليوم، فما رأيكم أن نتناول الإفطار في الباحة الخلفية؟

رحّب الجميع بالفكرة، وقاد أبو سليم الرجال إلى الباب الخلفي، فيما راحت النسوة يساعدن أمّ سليم في تجهيز المائدة الكبيرة ووضع أطباق الطعام التي أحضروها عليها.

فتحت أمّ سليم غطاء الطبق الذي أحضرته عائلة عمر، فتفاجأت بحجمه ورائحته الشهية، وقالت بامتنان:
– ما كان يجب عليكم أن تكلّفوا أنفسكم هذا العناء…

ابتسمت أمّ عمر وقالت:
– هذا أقلّ ما نقدّمه لإخوتنا في شهر الخير والبركة.

وما هي إلاّ لحظات حتى تعالت أصوات الأذان معلنة عن وقت الإفطار، كان الفناء دافئًا جميلاً، مزيّنًا بنباتات منزلية جميلة، وزينة رمضانية دافئة، جلس الجميع حول المائدة، وبدؤوا بتناول التمر والماء، ثمّ راحوا يسكبون من الأطباق الشهيّة التي أحضرها الجيران: الأرز الشهي مع الدجاج من بيت أبي عمر، السلطات الملوّنة من بيت أبي حسّان، حساء الخضار الساخن الذي أحضرته عائلة لُمى وأطباق أخرى متعدّدة أعدّتها بقية العائلات.

جلس عمر إلى جانب سليم. كان سليم ينظر بإعجاب إلى الطبق الذي أحضره عمر وعائلته. قال بهدوء:

– لم نأكل منذ وقتٍ طويل طبقًا بهذا الشكل…

شعر عمر بشيء يتحرّك في قلبه. مدّت أمّه إليه طبقًا فيه قطعة كبيرة من الدجاج، فقالت:

– هذه حصّتك يا عمر، فأنت تحبّها.

نظر عمر إلى القطعة، ثمّ إلى سليم الذي يأخذ قطعًا صغيرة بحذر، كأنه يخاف أن يكثر. تذكّر درس الأستاذ، وتذكّر قراره قبل قليل. دفع الطبق برفقٍ نحو سليم وقال:

– سليم، هل تأخذ هذه القطعة؟ يمكننا أن نتقاسمها سويًّا.

نظر سليم إليه متفاجئًا:

– حقًّا؟ إنها حصّتك أنت!

ابتسم عمر وقال:

– الطعام يصبح ألذّ عندما نشاركه مع الأصدقاء.

شاركاه القطعة، وأخذ عمر لنفسه قطعة أصغر، لكنّه شعر بسعادةٍ كبيرة في صدره، كأنّ قلبه بدأ يكبر ويتسع!

بعد الإفطار، جلس الكبار يتحدّثون. حكت أمّ سليم كيف اضطرت عائلتهم للرحيل عن بلدهم الأمّ بسبب الظروف الصعبة، وكيف اضطرّوا إلى ترك بيتهم القديم، وكيف بدؤوا من جديد في هذا البلد الجديد الغريب عنهم. كان الأب يهزّ رأسه متعاطفًا، والأمّ تقدّم الشاي والحلوى للجميع.

أمّا الأطفال حسان وياسين ولُمى وعُمر فراحوا يلعبون في الجوار مع بقية الأطفال…

جلسوا جميعًا في زاوية الغرفة يتحدّثون، امتلأت الغرفة بالضحكات والأصوات، وصارت الوليمة الصغيرة كبيرةً بالمشاركة والمحبّة، لا بالطعام فقط.

قالت لُمى بحماس:
_ من الجميل أن نجتمع كلنا هنا!

أجاب عمر بخجل، وابتسامة فخر خفيفة تظهر على شفتيه:
_ أردنا أن نشارك جيراننا بدايتهم الجديدة.

قال حسّان وهو ينظر إلى سليم:
– سأجلب لك في الغد بعض القصص المصوّرة، لعلّك تحبّها.

وأضاف ياسين:
– وأنا سأساعدك في الواجبات إذا احتجت.

كانت سلمى الصغيرة تضحك وهي تقفز بين الأطفال، والشعور بالدفء يملأ المكان.

عندما عاد عمر مع والديه إلى البيت بعد صلاة التراويح، كان الليل هادئًا، والقمر يضيء الحيّ بهدوء. في طريقهم، قال الأب:
– اليوم كانت وليمة بسيطة، لكنّها في نظر الله كبيرة وعظيمة، ففي الإحسان إلى الجار أجر عظيم وإطعام الصائمين له أجر أعظم، الحمد لله!

قالت الأمّ:
– ما أجمل أن يبدأ الجيران حياتهم في مكان جديد وهم يشعرون أنّ حولهم قلوبًا تحبّهم وأنهم ليسوا وحدهم.

أما عمر، فكان يسير وهو يشعر بخفّة عجيبة. لم يعد يفكّر في الطبق الذي تركه هناك، بل في الابتسامة التي رآها على وجه سليم وأسرته، وفي الثواب العظيم الذي حازه في هذه الليلة المباركة من رمضان. لقد تذوّق عُمر أخيرًا حلاوة الإيثار والمشاركة، ووعد نفسه أنّه سيشارك ما يحبّه مع الآخرين دومًا لتتضاعف سعادته وفرحته كما حدث اليوم.

هل أعجبتك هذه القصّة؟ اقرأ المزيد من مغامرات الصغير الصائم على حدّوتة.

اقرأ أيضًا: أنشطة للعائلة والأطفال في رمضان.

سلسلة حكايات فلسطين | عصافير نابلس وحكاية الصابون

قصّة جديدة ومدينة جديدة نزورها معًا في سلسلة حكايات فلسطين. اليوم نزور مع صديقنا آدم مدينة نابلس ونتعلّم معًا كيفية صناعة الصابون الذي تشتهر به المدينة. انضمّوا إلينا في هذه المغامرة الممتعة والدافئة، ولنستكشف معًا مدينة نابلس العريقة.

صباح نابلس والعصافير

استيقظت مدينة نابلس مع أوّل خيطٍ من نور الصباح. أطلّ قرصُ الشمس ببطء من بين الجبال، وألقى بأشعته الذهبية على البيوت الحجرية القديمة، فتلألأت الأسطح والقباب الصغيرة كأنها تبتسم ليوم جديد.

في الأزقّة الضيّقة، انتشرت رائحة الخبز الطازج والزعتر. وفوق الحيّ، حلّقت عصافير صغيرة، تنتقل من سطحٍ إلى آخر، وتغنّي بصوتٍ رقيق، كأنها تقول: صباح الخير يا نابلس.

في أحد البيوت، فتح الصبيّ آدم نافذة غرفته. دخل الهواء البارد منعشًا، ومعه حمل رائحة غريبة لم يعهدها الصبي الصغير. توقّف آدم، وأخذ يشمّ بدهشة:

_ هذه ليست رائحة خبز… ولا قهوة… إنّها رائحة نظيفة، هادئة، تشبه زيت الزيتون النقي بعد المطر.

مدّ آدم رأسه خارج النافذة، كم يبحث عن مصدر هذه الرائحة المميزة، فرأى بعض العصافير تحلّق فوق مبنى حجري كبير في آخر الحارة.
كان يعرف هذا المبنى جيدًا؛ إنّه المَصْبنة (مصنعُ الصابون) التي يعمل فيها جدّه، حيث يُصنَع الصابون النابلسي المشهور.

وما فتئ الجدّ يطرق الباب، ويدخل الغرفة بخطوات هادئة، وابتسامة مشرقة ترتسم على وجهه:

– صباح الخير يا آدم. ما رأيك أن تزور المَصْبَنَة معي اليوم؟

أشرق وجه آدم فرحًا:

– نعم يا جدّي. أريد أن أعرف كيف يتحوّل زيت الزيتون إلى صابون.

ربّت الجدّ على كتفه برفق:

– حسنًا يا بنيّ، اليوم سوف ترى كل شيء بعينيك. فاذهب وتناول فطورك لنغادر بعدها، لقد أعدّت جدّتك فطائر الزعتر اللذيذة، وهي بانتظارك الآن.

_ يا سلاام! فطائر جدّتي الشهية التي لا تقاوم! أنا قادم!

ثمّ ألقى نظرة أخرى من النافذة. وسارع لارتداء ثيابه، قبل الفطور. كانت العصافير ما تزال تحلّق فوق الحارة، والمدينة تستعدّ ليومٍ جديد.
لم يكن يعلم آدم حينها أنّ هذا اليوم سيجعله ينظر إلى قطعة الصابون الصغيرة في بيته بطريقة مختلفة تمامًا…

داخل المصبنة القديمة

سار آدم مع جدّه في الأزقّة المرصوفة بالحجارة. كان الناس يفتحون محالّهم، والأطفال يسرعون إلى مدارسهم، ورائحة الصابون تزداد كلّما اقتربا.

دخلا من بابٍ خشبيّ عريض، فشعر آدم أنّه انتقل إلى عالمٍ آخر. سقف عالٍ، جدران حجرية سميكة، وضوء الشمس يدخل من نوافذ مرتفعة على شكل خطوط ذهبية.

في وسط القاعة، رأى حلّة نحاسية ضخمة، وتحتها نار هادئة. داخلها خليط سائل يتحرّك ببطء، وكان أحد العمّال يحرّكه بعصًا خشبية طويلة.

وقف آدم إلى جوار جدّه ينظر بدهشة. ثمّ التفت إلى الجدّ وهمس مستفسرًا:

_ ماهذه يا جدّي؟

_ هنا تبدأ حكاية الصابون. نخلط زيت الزيتون مع الماء ومادة تساعد على التنظيف، ثم نطبخ الخليط بصبرٍ طويل.

أجاب الجدّ موضّحًا. ثمّ أشار إلى برميل كبير في زاوية القاعة، وواصل القول:

– أوّلًا، نأتي بزيت الزيتون من بساتين الزيتون حول نابلس. إنّه زيت نظيف وعالي الجودة، من أشجار قديمة رعاها الفلّاحون طويلًا. ثم نخلط الماء بمادة خاصّة في برميل آخر. وبعد ذلك نسكب هذا الخليط مع زيت الزيتون في الحلّة الكبيرة.

أنصت باهتمام إلى جدّه وهو يشرح له عن كيفية صناعة الصابون، وراح يتأمّل حركة العامل.

قال الجدّ:

– نطبخ هذا الخليط ساعات طويلة، وأحيانًا أيّامًا، مع التحريك المستمرّ. ومع مرور الوقت، يتحوّل هذا الخليط كله إلى مادة جديدة هي الصابون.

نظر آدم حوله، فرأى عمّالًا آخرين يقومون بأعمال مختلفة، أحدهم يراقب النار تحت الحلّة، وآخر يتأكّد من كثافة الخليط، وآخر يجهّز أدوات لمرحلة قادمة.

كان المكان نشيطًا يعجّ بالحركة، لكنّها حركة منتظمة مدروسة، تمامًا كخلية نحل، وأحسّ آدم في أعماقه أنّ هذه المصبنة ليست مجرّد مصنع عادي، بل قلب نابلس الصغير الذي ينبض برائحة زيت الزيتون والصابون.

ثمّ رفع رأسه نحو إحدى النوافذ العالية، فبدت له قطعة من السماء الزرقاء الصافية، ووسعه رؤية أسراب من الطيور تحلّق في البعيد.

مربّعات الصابون وأبراج نابلس

بعد وقتٍ من الطبخ والتحريك، أعلن أحد العمّال أنّ خليط الصابون أصبح جاهزًا.
اقترب عمّال آخرون يحملون أوعية معدنية كبيرة، وبدؤوا يغرفون السائل من الحلّة، ويسكبونه على أرضية واسعة ملساء في وسط القاعة.

انتشر الصابون السائل على الأرضية، حتى صار يشبه بساطًا سميكًا لامعًا بلونٍ عاجيّ خفيف. ووقف آدم إلى جانب جدّه يتأمّل هذا البساط الغريب.

انتظر الجميع قليلًا حتى برد الصابون بعض الشيء، ثم جاء عامل يحمل أداة طويلة مستقيمة تشبه المسطرة. بدأ يمرّرها على سطح الصابون، يرسم خطوطًا متوازية بالطول، ثم خطوطًا أخرى بالعرض. وهكذا تحوّل البساط الكبير إلى شبكة من المربّعات المتساوية.

قال آدم وهو ينظر متعجبًا:

– تبدو مثل صفحة كبيرة من دفتر الرياضيات، لكنها مصنوعة من الصابون!

ضحك الجدّ:

– نعم، كلّ مربع هنا سيتحوّل إلى قطعة صابون منفصلة.

ثمّ جاء عامل آخر يحمل أداة معدنية صغيرة عليها نقش محفور، ثمّ انحنى على كل مربّع، يضغط بالختم في وسطه بلطف. فظهر على وجه كل قطعة ختم المصبنة، كعلامة تدلّ على أنّ هذا الصابون نابلسي أصلي.

سأل آدم بفضول:

– لماذا تضعون هذا الختم يا جدّي؟

– كي يتأكد الناس عندما يشترون الصابون أنّه مصنوع من زيت الزيتون الصافي، وبطريقة صحيحة. الختم يشبه توقيع الفنان على لوحته، يقول للناس: “صُنع هذا المنتج بأفضل الموادّ، وعلى الأصول!”

_ وماذا الآن؟

سأل آدم مجدّدًا، فقاده الجدّ إلى زاوية أخرى في المصنع، حيث كان العمّال يجمعون قطع صابون تمّ إعدادها سابقًا، كانت القطع تشبه مكعّبات صغيرة ذات لون هادئ، بين الأبيض والأصفر، رائحتها لطيفة وقويّة في الوقت نفسه.

حمل بعض العمّال هذه المكعّبات إلى زاوية خاصة من المصبنة، حيث كانت استقرّت صفوف عالية من الصابون. صفّوا القطع الجديدة فوق القديمة، على شكل أبراج طويلة، مع ترك فراغات صغيرة بين القطع ليمرّ الهواء بينها.

تقدّم آدم وهو ينظر إلى الأبراج بإعجاب:

– لماذا تتركون الصابون في هذه الأبراج كل هذا الوقت؟

– لأن الصابون يحتاج إلى أن يجفّ بهدوء، يا آدم.

يبقى هنا أشهرًا حتى يزداد صلابة وجودة، فلا يذوب بسرعة عندما نستخدمه في الماء.

تأمّل آدم أبراج الصابون النابلسي باهتمام، وأحسّ أنّ كلّ قطعة تروي حكاية عريقة عن شجر الزيتون، وجِدِّ الفلاحين، وجهود عاملي المصبنة.

هديّة من رائحة نابلس

مع نهاية النهار، هدأت حركة العمال في مصنع الصابون النابلسي، وراح العمّال يرتّبون أدواتهم ويجهّزونها لليوم التالي. اقترب الجدّ من أحد أبراج الصابون، وأخذ بعض القطع التي جفّت أخيرًا. لفّها في أوراق بيضاء خاصّة، ثم أعطى آدم قطعتين.

– هذه لك، وسنقدّم الأخرى هديّة لأحد الجيران.

فرح آدم بهذه الهدية الجميلة، وسار مع الجدّ معًا عائدين إلى المنزل. كانت الشمس تميل نحو الغروب، وتلوّنت السماء بدرجات البرتقالي والأحمر، فيما حلّقت العصافير عائدة إلى أعشاشها هي الأخرى فوق أسطح منازل نابلس العريقة.

وفي طريقهما، مرّ الجدّ وآدم من أمام بيتٍ صغير في الحارة. كانت هناك امرأة مسنّة تجلس عند الباب على كرسي خشبي، تراقب الأطفال وهم يلعبون بالحجارة والكرات في الزقاق. كانت تلك الحاجة أم حسّام. سلّم الجدّ عليها، ثم قال لآدم بلطف:

– تقدّم يا بنيّ، وقدّم لها قطعة الصابون.

تقدّم آدم بخطوات خجولة، ومدّ يده بالهدية:

– هذه قطعة صابون من المصبنة، أهداها لي جدّي، وأحببنا أن نهديكِ واحدة.

أخذت الحاجة أم حسّام القطعة بعناية، واستنشقت رائحتها الجميلة، فأشرق وجهها فرحًا بمجرّد أن لامست الرائحة أنفها:

– ما أطيب هذه الرائحة… تذكرني بأيامٍ الزمن الجميل، حين كانت نابلس تمتلئ بالمصابن، والبيوت تفوح برائحة الصابون والزيتون.

غمر الدفئ قلب آدم الصغير. لقد أدرك حينها أنّ بإمكان هديّة صغيرة مثل قطعة صابون أن تدخل السعادة إلى القلوب، وتعيد إليها ذكريات جميلة مليئة بالحنين إلى الماضي.

وعاد مع جدّه إلى البيت سعيدًا مسرورًا بما رآه وعاشه اليوم في المصبنة. في المساء، وضعت الأمّ قطعة الصابون الأخرى قرب حوض الغسل في الحمّام. وما هي إلاّ لحظات حتى انتشرت في البيت رائحته، كانت خفيفة، ولكنّها جميلة للغاية.

وقف آدم يغسل يديه، يراقب الرغوة البيضاء على أصابعه، ويتذكّر الحلّة الكبيرة، والبراميل، والمربّعات، والأبراج العالية. أدرك أنّ الصابون الذي يستخدمه كلّ يوم ليس شيئًا عاديًا، بل هو جزء من تاريخ مدينته نابلس.

اقترب من النافذة، ونظر إلى السماء.
رأى العصافير تطير في آخر ضوء للغروب، ثم تختفي شيئًا فشيئًا بين الأسطح. ابتسم آدم، وقال محدّثًا نفسه:

_ كلّما رأيتُ عصافير نابلس في السماء، سوف أتذكّر رائحة الصابون النابلسي، والمصبنة القديمة، ويدي التي حملت قطعة صغيرة تحمل حكاية كبيرة.

اقرأ المزيد من حكايات فلسطين على موقع حدّوتة.

مغامرات الصغير الصائم: سرّ ليلة القدر

ليلة القدر هي من اعظم الليالي في شهر رمضان المبارك، ولكن عمر لا يعرف عنها شيئًا بعد. في هذه القصّة نشارك عمر وأصدقاءه مغامرة هادفة للتعرّف على سرّ هذه الليلة المباركة، وأهمّ العبادات التي سيقومون بها لنيل الأجر والثواب فيها.

ليلة رمضانية

اقترب المساء يقترب بهدوء، وغاص قرص الشمس ببطء خلف البيوت… اصطبغت السماء بدرجات متفاوتة من اللون البرتقالي، وأنارت الأضواء في الشارع واحدة بعد الأخرى كنجوم صغيرة.

في البيت، كانت رائحة الحساء الدافئ والخبز الطازج تملأ المكان وتداعب الأنف. وضعت الأمّ التمر والماء على المائدة بحب، بينما رتّب الأب الأكواب والأطباق وهو يبتسم.

جلس عمر قرب النافذة يراقب السماء بهدوء. كان يشعر ببعض التعب، لكنّ الابتسامة مع ذلك ارتسمت عريضة على محيّاه، لقد كان فخورًا بنفسه، فقدا صام يومًا جديدًا من رمضان! وما هي إلاّ لحظات حتى صدح صوت أذان المغرب معلنًا عن نهاية النهار.

أسرع عمر إلى المائدة، وجلس مع والديه. أفطروا على التمر والماء، ثم تناولوا طعامهم وهم يتحدّثون بهدوء وسعادة.

بعد انتهاء الإفطار، تعاونوا جميعًا في ترتيب المطبخ، وغسل الصحون، ثمّ جلسوا جميعًا في الصالة، يُنيرها ضوء خافت يبعث على الراحة والاطمئنان. وما فتىء الأب يقول:

_ مرّ هذا الشهر سريعًا حقًا، وها نحن نبدأ العشر الأواخر.

_ نعم يا أبا عمر، كانت أيّامًا مباركة، وها هي الآن تزداد بركة، علينا اغتنام ما تبقّى من هذا الشهر.

شعر عمر بالفضول، فقدا بدا أنّ والديه مهتمّان جدًّا بهذه الأيام المقبلة، فسأل مستفهمًا؟

_ ما هي العشر الأواخر يا أبي؟ ولماذا هي مهمّة إلى هذا الحدّ؟

ابتسم الأب وأجاب قائلاً:

_ العشر الأواخر يا صغيري هي الثلث الأخير من شهر رمضان المبارك، وفيها ليلة خاصّة جدًّا اسمها ليلة القدر. في هذه الليلة أنزل الله القرآن على نبيّنا محمد ﷺ، وجعل العبادة فيها أفضل من العبادة في أي وقت؛ فمن يصلّي ويدعو في هذه الليلة، كأنّه عبد الله سنينًا كثيرة.

وأضافت الأمّ قائلة:
– إنّها ليلة مليئة بالخير والرحمة، ففيها يُرسل الله ملائكته إلى الأرض، وفيها يشعر الناس بالسلام والطمأنينة حتّى طلوع الفجر، ويستجيب الله فيها للدعوات.

التمعت عينا عمر فرحًا عند هذه الكلمات:

_ هل يمكنني إذن أن أدعو في هذه الليلة أن أحصل على دراجة جديدة، ولعبة فيديو أخرى؟

ضحك الأبوان، وقال الأب:

_ يمكنك أن تدعو فيها ما تشاء من أمور ترغب في الحصول عليها في الدنيا، أو دعوات بالدخول إلى الجنّة في الآخرة، فالله تعالى سيستجيب لدعواتك ما دامت في سبيل الخير.

– ولكن يا أبي في أيّ يوم تأتي ليلة القدر؟

أجاب الأب:
– لا نعرفها بالتحديد، لكنّ النبيّ ﷺ أخبرنا أنّها في العشر الأواخر من رمضان، وأنّنا نرجوها في الليالي الفردية، مثل ليلة واحد وعشرين، وثلاثة وعشرين، وخمسة وعشرين، وسبعة وعشرين، وتسعة وعشرين. لذلك نحاول أن نجتهد في هذه الليالي.

وهنا خطرت لأمّ عمر فكرة ذكية، فقالت:
– ما رأيك يا صغيري أن نجعل من هذه الأيّام المباركة فرصة للاستمتاع أكثر بهذا الشهر الكريم، والتقرب من الله والدعاء له بتحقيق أمنياتنا؟

استقبل عمر هذه الفكرة بحماس وتَوْق، وردّ قائلاً:

_ أنا موافق يا أمّي، ومتحمّس للغاية، ولكن ماذا سنفعل في هذه الأيام، وفي الليالي الفردية بالتحديد؟

قالت الأم:

_ سنسعى خلال هذه الأيام لنكون أشخاصًا أفضل، سنصلّي ونقرأ القرآن كثيرًا، وندعو الله بحرارة ليحقق لنا آمالنا، ويسامحنا على أخطائنا السابقة. وسنحاول في كلّ ليلة أن نحزر ما إذا كانت ليلة قدر أم لا…ما رأيك؟

_ نعم! أنا مستعدّ لهذه المغامرة الجديدة!

وهكذا اتفقت العائلة على الجدّ والاجتهاد أكثر في العبادة خلال هذه الأيام المباركة.

حديث الصفّ عن ليلة القدر

في اليوم التالي، ذهب عمر إلى المدرسة فرحًا متحمّسًا لهذه الأيام العشر المباركة. كان يفكّر في حديثه مع والديه بالأمس، ويحاول أن يكتشف طرقًا جديدة ليكون طفلاً افضل. دخل الصفّ فوجد ياسين جالسًا يتحدّث مع سلمى وأحمد ويخبرهم عن إفطاره في بيت الجدّة بالأمس، فانضمّ إليهم عمر يستمع إلى حوارهم ويحدّثهم هو الآخر عمّا تعلّمه بالأمس عن ليلة القدر العظيمة.

دخل معلّم التربية الإسلاميّة، الأستاذ سامي حاملًا كتابه، وعلى وجهه ابتسامة لطيفة. كتب على اللوح: ليلة القدر، ثمّ التفت إلى الطلّاب وسأل:

– من منكم سمع عن ليلة القدر؟

رفع عمر يده فورًا:
– أنا يا أستاذ. تحدّثت عنها مع أبي البارحة.

قال المعلّم:
– جميل يا عمر، أخبرنا ما تعلّمته عنها؟

أجاب عمر:
– أخبرني أبي أنّها الليلة التي أنزل الله فيها القرآن، وأنّ العبادة في هذا الوقت من أفضل العبادات طيلة العام، كأنّ الإنسان يعبد ربّه سنينًا كثيرة، وفيها تتحقّق الأمنيات ويستجيب الله للدعوات.

أومأ الأستاذ برأسه وقال:
– هذا صحيح. ولها أيضًا فضلٌ آخر: من يقوم هذه الليلة بالصلاة والدعاء، وهو صادق الإيمان يريد ثواب الله؛ يغفر الله له أخطاءه السابقة كلها! ويرزقه الخيرات في الدنيا والآخرة.

رفع أحمد يده، وسأل مستفسرًا:

_ هل حقًا تتحقّق فيها كلّ دعواتنا؟

وهزّ الأستاذ سامي رأسه مجيبًا بنعم. فتعالت على الفور أصوات الأطفال فرحًا وحماسًا لهذه المعلومة، كانت فكرة أن تتحقّق كلّ آمالهم في ليلة واحدة أشبه بقصّة خيالية. وراح كلّ منهم يهتف بأمنياته التي سيدعو الله أن يحققها له في هذه الليلة العظيمة، فيما راح الأستاذ يتأمّلهم مبتسمًا. قبل أن يطلب منهم التزام الهدوء والعودة إلى الدرس. وحينما هدأ الطلاّب قال مجدّدًا:

_ صحيح أنّ الله يستجيب لكلّ الدعوات، وسيحقق لكم جميع الأمنيات، ولكن علينا أيضًا أن نتذكّر ما درسناه عن آداب الدعاء. من يقول لنا ما هي آداب الدعاء؟

رفعت إيمان يدها، وأشار إليها الأستاذ بالإجابة، فقالت:

_ أولا أن نحمد الله ونشكره على نعمه التي منحنا إياها، ثمّ نصلّي على النبي ﷺ، وندعو بعدها بيقين وإخلاص، ونحمد الله عند الانتهاء من الدعاء. ولا نستعجل الإجابة.

_ أحسنتِ يا إيمان! فاحرصوا يا صغاري على الالتزام بهذه الآداب عن الدعاء في ليلة القدر. وهنا رفعت لمى يدها وسألت:

– يقول بعض الناس أنّ ليلة القدر هي دائمًا ليلة السابع والعشرين من رمضان. فهل هذا صحيح؟

أجاب الأستاذ:

– ليلة السابع والعشرين ليلة عظيمة، ويظنّ كثير من المسلمين أنّها أقرب الليالي لأن تكون ليلة القدر، لكنّ الصحيح أنّ ليلة القدر قد تكون في أيّ ليلة من العشر الأواخر، وخصوصًا الليالي الفردية. لذلك يجب أن نجتهد في عدّة ليالٍ، لا أن ننتظر ليلة واحدة فقط.

سأل حسّان:
– وماذا نفعل إذا أردنا أن نغتنم هذه الليلة؟

كتب الأستاذ على اللوح بخطّ كبير: “ماذا نفعل في ليلة القدر؟” ثمّ بدأ يشرح:

هنالك الكثير ممّا يمكنكم القيام به في الليالي التي نتحرّى فيها ليلة القدر:

  • يمكنكم أن تصلّوا ما استطعتم من الركعات، حتّى لو كانت ركعتين إضافيّتين.
  • ويمكنكم أن تقرؤوا من القرآن، ولو صفحات قليلة.
  • ويمكنكم أن تكثروا من قول الأذكار، وطلب المغفرة من الله.
  • ومن أجمل الأعمال أن تدعوا لأنفسكم ولوالديكم ولمن تحبّون، ولجميع المسلمين.
  • والصدقة أيضًا عملٌ جميل في هذه الليالي.

تردّد ياسين ثمّ سأل:
– يا أستاذ، هل هناك دعاء معيّن يفضّل أن نقوله في هذه الليلة؟

ابتسم المعلّم وقال:
– نعم، النبيّ ﷺ علّم السيّدة عائشة دعاءً جميلًا تقوله إذا وافقت ليلة القدر، وهو: “اللهمّ إنّك عفوٌ تحبّ العفوَ فاعفُ عنّا” معنى هذا الدعاء أنّ يطلب العبد من الله أن يعفو عنه، وأن يمسح ذنوبه؛ لأنّ الله يحبّ أن يعفو عن عباده، ويحبّ أن يغفر لهم.

فتح التلاميذ دفاترهم، وكتبوا معنى الدعاء:

“يا ربّ، أنت تمسح الذنوب وتحبّ أن تغفر، فامسح ذنوبي واغفر لي.”

قبل أن تنتهي الحصّة، قال الأستاذ سامي:
– أريد من كلّ واحد منكم أن يكتب خطة صغيرة للعشر الأواخر: كم ركعة سيصلّي؟ كم صفحة من القرآن سيقرأ؟ وما الدعاء الذي سيكرّره كلّ ليلة؟ هذه ستكون مغامرتكم مع ليلة القدر.

نظر عمر إلى أصدقائه وقال بثقة:
– سنكون أبطالًا في هذه المغامرة، كلّ واحد منّا بطل في طريقه للوصول إلى سرّ ليلة القدر.

ليلةٌ وترية وسباق في الطاعات

حلّت ليلة جديدة من ليالي العشر الأواخر. وفي هذه اليلة شعر عمر أنّ الجوّ مختلف. في طريق عودته بعد صلاة التراويح في المسجد مع والده، نظر إلى السماء فرآها صافية مليئة بالنجوم اللامعة كجواهر صغيرة، وأحسّ بهواء لطيف يداعب شعره، في قلبه شعر عمر بطمأنينة وسعادة غامرة. فتساءل بينه وبين نفسه: “هل تراها ليلة القدر؟”

في غرفة الجلوس، كان الأمّ قد جهّزت ركنًا صغيرًا للعبادة: سجّادات صلاة، ومصاحف صغيرة، وضوءٌ هادئ. وبعد أن عاد عمر وأبوه من الصلاة، وارتاحا قليلاً، أدرف الأب قائلاً:

– هذه ليلة فردية من العشر الأواخر، قد تكون ليلة القدر، وقد تكون في ليلة أخرى. لا نعلم، لكنّ الله يرى ما نفعل.

توضّأ عمر، وصلّى مع والديه. بعد الصلاة جلسوا يقرؤون من القرآن. فتح عمر سورة تتحدّث عن ليلة القدر. كانت قصيرة وسهلة، لكنّ معانيها كبيرة. فهم منها أنّ:

القرآن نزل في تلك الليلة المباركة. وأنّ هذه الليلة أفضل من العبادة لزمن طويل جدًّا. وأنّ الملائكة تنزل فيها بكلّ خيرٍ وأمرٍ طيّب، إلى أن يطلع الفجر.

توقّف عمر قليلًا وقال:
– يا أبي، أشعر أنّ هذه الليلة كنزٌ كبير. لكنّني ما زلت صغيرًا… هل تُقبل عبادتي مثل الكبار؟

ضحك الأب بحنان وقال:
– بالطبع يا صغيري، فالله ينظر إلى قلبك، وإلى نيّتك، وليس إلى عمرك. إذا أخلصت في الصلاة والدعاء، فإنّ الله يفرح بعبادتك واجتهادك، مهما كان عمرك.

قالت الأمّ بلطف:
– ما رأيك أن ندعو الآن كما علّم النبيّ ﷺ أصحابه؟ سنطلب من الله أن يعفو عنّا ويمسح ذنوبنا؛ لأنّه يحبّ أن يغفر.

رفعوا أيديهم معًا، وقالوا دعاءً معناه:

“اللهمّ إنك عفوٌ تحبّ العفوَ فاعفُ عنّا”

أغمض عمر عينيه، وتخيّل أنّ أخطاءه الصغيرة تُمسح من دفترٍ كبير في السماء. ثمّ تذكّر أصدقاءه، فبدأ يدعو لهم:

– يا ربّ، ساعد ياسين في دراسته، ووفّقه.
– يا ربّ، احفظ لمى وأهلها، واجعلهم سعداء.
– يا ربّ، اجعل حسّان يحبّ الصلاة والقرآن.
– يا ربّ، اغفر لأبي وأمّي، وامنحهما الصحّة والسعادة.

نظرت الأمّ إلى عمر بإعجاب، وقالت بهمس:
– هكذا يكون القلب قريبًا من الله في ليلة القدر: لا يفكّر في نفسه فقط، بل يدعو للآخرين أيضًا.

استمرّوا في الصلاة والقراءة والذكر بعض الوقت، ثمّ بدأ النعاس يغلب عمر. نام وهو مستند إلى أمّه، وابتسامة هادئة على وجهه.

السرّ الحقيقيّ لليلة القدر

في الصباح، استيقظ عمر وهو يشعر براحةٍ غريبة في قلبه، رغم تعبه الجسدي. في المدرسة، جلس مع أصدقائه تحت شجرةٍ في الساحة أثناء الاستراحة.

قالت لمى:
– البارحة قرأت مع أمّي جزءًا من القرآن، ودعوت الله كثيرًا. بعد ذلك شعرتُ بسكينةٍ جميلة.

قال حسّان:
– أنا حاولت أن أستيقظ قبل الفجر، صلّيت ركعتين، ثمّ نمتُ من شدّة التعب، لكنّني سعيد لأنّني حاولت. وسأحاول مرّة أخرى في الليالي القادمة.

وقال ياسين:
– تذكّرت كلام الأستاذ عن الصدقة، فأخذت جزءًا من مصروفي، ووضعته في صندوق المسجد. دعوت الله أن يتقبّل منّي.

اقترب الأستاذ سامي منهم، وقد سمع حديثهم، فجلس بقربهم وقال بابتسامة:

– يبدو أنّكم بدأتم تفهمون سرّ ليلة القدر.

سأل عمر:
– هل السرّ هو أن نعرف اليوم بالتحديد؟ أن نقول: هي كانت البارحة مثلًا؟

هزّ المعلّم رأسه وقال:
– ليس هذا هو السرّ الأهم. نعم، كثير من الناس يحبّون أن يعرفوا الليلة، ولكن السرّ الحقيقيّ هو أن تجتهدوا في العبادة في العشر الأواخر، وأن تكون نيّتكم صادقة، تريدون رضا الله وحده. إذا فعلتم ذلك، فربّما توافق عبادتكم ليلة القدر، فيغفر الله ذنوبكم، ويكتب لكم أجرًا كبيرًا جدًّا.

ثمّ أضاف:
– المؤمن لا يعبد ربّه في ليلةٍ واحدةٍ فقط، بل يحاول أن يحافظ على الصلاة والذكر والقراءة طوال السنة. ليلة القدر تساعدنا أن نبدأ بداية جديدة مع الله، وأن نقرّر أن نكون أفضل بعد رمضان.

عاد عمر إلى البيت وهو يفكّر في هذه الكلمات. في المساء، جلس مع والديه، وحكى لهما ما قاله المعلّم. ثمّ قال:

– الآن فهمت: سرّ ليلة القدر ليس سرًّا مخيفًا، بل هو سرّ جميل. السرّ هو أن يكون قلبي قريبًا من الله، وأن أجتهد في هذه الليالي، ثمّ أحاول أن أستمرّ في الطاعة بعد رمضان أيضًا.

ربّت الأب على كتفه وقال:
– أحسنت يا عمر، هذا بالضبط سرّ ليلة القدر المباركة.

وقالت الأمّ بفخر:
– ونحن فخوران بك، يا صغيرنا الصائم المجتهد.

اقترب عمر من النافذة، نظر إلى السماء المليئة بالنجوم، وقال في نفسه:

– يا ربّ، اجعلني أحبّك وأطيعك دائمًا، في رمضان وبعد رمضان، واجعلني من الذين تسامحهم لهم في ليلة القدر.

وهكذا سعى كلّ من عمر وأصدقائه إلى نيل الأجر والثواب في ليلة القدر المباركة. فزاد بذلك قربهم من الله، وشعر كلّ منهم أنّه يصبح شخصًا أفضل مع مرور كلّ يوم. وتعاهدوا جميعًا على الاستمرار في الطاعة والعبادة حتّى بعد انتهاء شهر رمضان المبارك.

وماذا عنكم يا أصدقاء؟ أخبرونا كيف ستقضون الليالي العشرة الأخيرة من شهر رمضان المبارك؟

اقتراحات للأهالي

فيما يلي بعض الاقتراحات لمساعدة طفلك على التدرّب على العبادات في العشر الأواخر بأسلوب محبّب يتناسب مع عمره:

  • حوّل العشر الأواخر إلى مغامرة ممتعة لطفلك، يمكنك رسم خريطة مثلاً بـ 10 محطّات مختلفة، وكلّ محطّة تمثّل عملاً طيبًّا يستطيع طفلك القيام به في يوم من الأيام العشرة، كالصلاة مثلاً، حفظ سورة قصيرة من القرآن، التصدّق بجزء من المصروف…الخ. ومع كلّ مهمّة محققة يتقدّم الطفل خطوة نحو الجائزة. كافئ طفلك في النهاية بهدية بسيطة لتشجيعه.
  • جهّزي لأطفالك ركنًا صغيرًا للعبادات، وشجّعيهم على الصلاة معًا (بما يتناسب مع قدراتهم).
  • خصّصوا وقتًا عائليًا خلال العشر الأواخر، تقرؤون فيه القرآن معًا، أو تتحدّثون عن فضل ليلة القدر بأسلوب ممتع للصغار.

شاركونا في التعليقات، كيف يشارك أطفالكم في العشر الأواخر من رمضان؟ وما هي النشاطات التي تقومون بها معًا لتعزيز حبّهم لهذه الليلة المباركة؟

اقرأ أيضًا: مغامرات الصغير الصائم: عمر ووحش الجوع.

نوادر جحا المضحكة | أشهر قصص جحا الطريفة

في عالم الحكايات المليء بالمغامرات والضحكات، يطلّ علينا رجل ظريف اسمه جحا. جحا شخصية عربية مشهورة جدًّا، أحبّه الناس عبر السنين لأنه يملك ذكاءً سريعًا وطرافةً لا حدود لها، فتجده أحيانًا يخطئ بطريقة مضحكة، وأحيانًا يردّ على المواقف بإجابات ذكية تُدهش الجميع.

ولأن قصصه تجمع بين المرح والحكمة، أحببنا أن نأخذكم في رحلة ممتعة عبر مجموعة من أشهر نوادره. ستقرؤون في كلّ فصل حكاية مضحكة جديدة، مليئة بالمواقف الطريفة، والأحداث عجيبة، والدروس الجميلة التي تجعلنا نفكّر ونبتسم معًا.

جحا يبيع حماره

كان الصباح دافئًا والنسيم يهبّ برفق حين خرج جحا من بيته ممسكًا بحبل حماره. كان الحمار يمشي بخطوات هادئة، يتلفّت يمينًا ويسارًا وكأنه يعرف أنّ أمرًا ما ينتظره اليوم!

قال جحا وهو ينفض الغبار عن ثوبه مبتسمًا:
«اليوم يا رفيقي العزيز… سنذهب إلى السوق، لعلّي أجد من يشتريك بثمنٍ جيّد.»

وصل جحا إلى السوق عند الضحى، فوجد المكان يعجّ بالحياة. وأصوات الباعة تتردّد في الأجواء:
«تفاح طازج!» — «توابل من بلاد بعيدة!» — «سيوف لا تُشقّ لها دروع!»
والناس تذهب وتأتي بين الدكاكين بنشاط كبير.

وقف جحا وسط هذا الزحام، نظر إلى حماره نظرة طويلة، ثم قال في نفسه:
«لن يشتري أحدٌ حمارًا عاديًّا… عليّ أن أُثير اهتمامهم ليشتروه!»

تنفّس جحا بعمق، ونادى بأعلى صوته:
“هلمّوا يا قوم! من يشتري حمارًا لا مثيل له؟! حمار يعرف الطريق وحده، يحمل الأثقال بلا تعب، وصبورٌ يشكر الله حتى وهو يعمل!”

توقّف المارّة عند سماع ما قاله جحا، وشدّ اهتمامهم أمر هذا الحمار العجيب.
اقترب رجلٌ وقال بدهشة:
“حقًّا؟ وهل رأيت حمارًا يعرف الطريق من تلقاء نفسه؟”
ولحقه آخر قائلًا:
“وهل يصبر أكثر من كل الحمير؟! عجبًا يا جحا!”

التفّ الناس حول جحا، كلّ واحد منهم يحاول رؤية هذا الحمار الغريب العجيب.
وبدأت الأصوات تتعالى، قال أحدهم:

“أنا أشتريه!”

وصاح آخر:

“بل أنا أشتريه، وسأزيد على الثمن!”

وقال ثالث:


“مثل هذا الحمار لا يفوَّت!”

وهكذا تعالت الهتافات وتزاحم الناس على شراء حمار حجا، الذي شعر فجأة بشيء غريب… أحسّ جحا فجأة أنّ حماره، ربّما ليس كما يظنّ! اقترب منه، رفع أذنه قليلًا، نظر في عينيه، وتفحّصه كما لو أنّه يراه لأوّل مرة.

وبعد لحظات من الصمت، صاح جحا موجّها كلامه إلى الجمع:

” إذا كنتم أنتم أهل الخبرة، ترون فيه كلّ هذه الصفات العظيمة…فكيف أبيعه؟! ممّا لا شكّ فيه أنّي لم أعرف قيمة حماري من قبل!”

ثم أمسك الحبل بقوّة، واعتدل واقفًا وأضاف قائلاً:

“معذرة منكم أيّها القوم، فحماري ليس للبيع!”

ثمّ انطلق مبتعدًا، هو وحماره، فيما راح الناس يحدّقون فيه مذهولين، يتضاحكون من تغيّر رأيه المفاجئ…

سار جحا، وحماره إلى جانبه، وراح يربّت على ظهر الحمار مبتسمًا:

«يا لك من حمار مميّز! لولا أهل القرية، ما عرفتُ قيمتك… وهل يبيع المرء كنزًا ثمينًا مثلك؟!”

وهكذا عاد جحا إلى بيته سعيدًا، وقد اكتشف أنّ أحيانًا كلمة واحدة من الآخرين كفيلة بأن تغيّر رأيًا… أو تعيد لصاحب الشيء قيمته في قلبه!

إرضاء الناس غاية لا تُدرك

خرج جحا في يومٍ مشمس حارّ متجهًا إلى السوق مع ابنه الصغير، يقودان معهما حمارهما الهادئ. وبعد قليل شعر جحا بالتعب، فركب الحمار وترك ابنه يمشي أمامه ممسكًا باللجام.

بينما هما يسيران، مرّا بجماعة من الرجال. نظر الرجال إلى المشهد وقال أحدهم بصوتٍ عالٍ:

“ما هذا الأب القاسي؟ يركب مرتاحًا ويترك ابنه الصغير يمشي تحت الشمس الحارقة!”

عند سماع هذه الكلمات، شعر جحا بالخجل من نفسه، فنزل فورًا عن ظهر الحمار وقال لابن برفق:

“فلتركب أنت يا بنيّ على ظهر الحمار، وسأمشي أنا إلى جانبك…”

وكذلك كان الحال، ركب الابن الحمار، وسار جحا إلى جانبه، واستمرّا في المسير إلى أنّ اقتربا من السوق، ومرّا بجانب مجموعة من النساء. وما إن رأينهم حتّى صاحت إحدّاهن مستنكرة:

“يا له من ابن عاقّ، يركب الحمار مرتاحًا، ويترك والده العجوز المسكين راجلاً يسير على قدميه في هذا الطقس الحارّ!”

وعند سماع هذه الكلمات، شعر الأب وابنه بالحيرة، وقال الابن:

“ما رأيك يا أبي أن نركب معًا؟ فربّما هذا هو الصواب…”

وافق جحا ابنه، وركب هو الآخر على ظهر الحمار، لكنّ الحمار المسكين لم يتحمّل وزن الاثنين معًا، وراح يسير ببطء. وما هي إلى لحظات قليلة، حتى وصلوا إلى السوق، وما إن رآهم التجّار، حتى استنكروا المشهد، وأردف أحدهم معلّقًا:

“يا للحمار المسكين، كيف يمكنهما أن يثقلاه هكذا، ألا يعرفان شيء عن الرحمة والرفق بالحيوان؟!”

ازدادت حيرة جحا، وكذلك ابنه، وقرّر الاثنان النزول عن ظهر الحمار، والسير على أقدامهما، ليرتاح حمارهما. وبعد أن أنهيا شراء حاجتهما، خرجا من السوق يمشيان، والحمار يتبعهما مطمئنًا. لكنّهما ما لبثا يسمعان مجموعة من أهل القرية يضحكون ساخرين منهما، وسمعا أحدهم يقول:

“يالا سذاجة هذا الرجل وابنه، يسيران على أقدامهما ويتركان الحمار خلفهما دون أن يركبا على ظهره!”

تبادل جحا وابنه النظرات فيما بينهما، ثمّ انفجرا ضاحكين معًا، ثمّ قال جحا:

“فعلاً، إرضاء الناس غاية لا تُدرك، فمهما فعلنا، سنتلقى نقدًا واعتراضًا… الأجدر أن نقوم بما هو صواب لنا، وندع كلام الغير عنّا.”

ومضى الثلاثة في طريقهم؛ جحا، ابنه، والحمار… وقد فهموا الدرس جميعًا.

جحا والقِدر

استعار جحا يومًا من جاره قدرًا كبيرة ليطبخ فيها الطعام. شكره بحرارة، ثم عاد بها إلى بيته. وبينما كان يغسل القدر بعد استخدامها، خطرت له فكرة غريبة جعلته يبتسم بمكر.

أحضر جحا قدرًا صغيرة من مطبخه، ووضعها داخل القدر الكبيرة، ثم حملهما معًا وذهب إلى بيت الجار، وطرق الباب.

فتح الجار، فسلّمه جحا القدر الكبيرة، ولاحظ القدر الصغيرة داخلها، فرفع حاجبيه دهشة وقال:

“ما هذه؟ أنا لم أعطِكَ إلا قدرًا واحدة!”

ابتسم جحا ابتسامة واسعة وقال بلطف مصطنع:

“يا جاري العزيز… بشّرك الله بالخير! قِدرُكَ الكبيرة ولدت عندي قدرًا صغيرة، ومن الأمانة أن أعيدهما إليك معًا.”

تغيّرت ملامح الجار بسرعة… من الدهشة إلى الفرح ثم إلى الطمع.

أخذ القدرَين وهو يقول:

“الحمد لله! يبدو أنّ قدري مباركة!”

ومضت الأيام. إى أن جاء يوم احتاج فيه جحا إلى القدر مجدّدًا، فطرق باب جاره وقال:

“يا جاري العزيز، أعِرني القدر الكبيرة مرة أخرى، فقد احتجتُ إليها.”

وافق الجار بلا تردد، وكيف لا يوافق؟! فهو ينتظر «ولادة» جديدة تزيد من عدد قدوره!

أخذ جحا القدر الكبيرة ومضى. مرّ يوم، ويومان، وثلاثة… ولم يُعِد جحا القدر إلى صاحبها. ونفذ صبر الجار وهو ينتظر عودة قِدره، فذهب إلى بيت جحا وطرق الباب بقوة.

فتح جحا الباب وقد بدت على وجهه ملامح الحزن الشديد، فقال الجار بنبرة تنمّ عن الضيق ونفاذ الصبر:

“أين القدر التي أعرتُك إيّاها يا جُحا؟ لقد تأخرت كثيرًا!”

تنهّد جحا بعمق، وأجاب بصوت يملؤه الأسى:

«يا جاري… أعزِّي نفسي وأعزّيك… فقِدرك الكبيرة ماتت!»

شهق الجار مندهشًا وصاح:

“ماتت؟! كيف تموت القدر يا جحا؟! أتعتقد أنّي أحمق أو مجنون؟!”

رفع جحا كتفيه بهدوء وقال:

“عندما قلتُ لك إن القدر ولدت، صدّقتَ دون أن تعترض…فلماذا لا تصدّق أنها ماتت؟ من يقبل الربح، عليه أن يقبل الخسارة أيضًا!”

وصمت حينها الجار، فقد أدرك أنّه وقع في فخّ طمعه!

جحا والخبّاز

ذهب جحا في صباحٍ مزدحم إلى المخبز ليشتري الخبز، فإذا به يجد صفًّا طويلًا من الناس يقفون ينتظرون دورهم بصبرٍ.

نظر جحا إلى أوّل الصف ثمّ إلى مكان وقوفه، وقال متنهّدًا:

“لو وقفتُ هنا فلن أصل إلى الخبز قبل الظهيرة! لا بد من حيلة.”

تقدّم جحا خطوة إلى الأمام، متظاهرًا أنّه يحمل أخبارًا مهمّة، ثم صاح بأعلى صوته ليسمعه الجميع:

“أيها القوم! ألم تسمعوا عن أمر الوليمة الكبيرة عند بيت الشيخ فلان؟ ما بالكم تقفون هنا في هذا الصف الطويل، تدفعون المال مقابل بضع أرغفة من الخبز؟! في الزقاق الخلفي وليمة عظيمة، يُقدّم فيها الطعام مجانًا!…”

لم يكد الناس يسمعون كلامه حتى انفرجت أساريرهم، وانطلقوا مسرعين نحو الزقاق الخلفي، يركضون فرحًا بما ظنّوه فرصة ذهبية! وقف جحا يراقبهم وهو يبتسم بانتصار، ثم قال في نفسه:

“الآن أصبح الطريق خاليًا… سأشتري الخبز بسهولة.”

وتقدّم نحو المخبز بخطواتٍ واثقة. لكن خطر في باله فجأة خاطر غريب. توقّف، ونظر إلى الناس وهم يركضون نحو الوليمة المزعومة. قال متردّدًا:

“إنّهم يركضون بسرعة… لعلّ الخبر حقيقي! ومَن يدري؟ ربما هناك وليمة لا تُفوَّت حقًا! من الأفضل أن أذهب أنا أيضًا وأتفقّد الأمر!”

وهكذا نسي جحا الخبز تمامًا، وانطلق يعدو خلفهم بكل حماس، متجهًا إلى الزقاق الخلفي، مصدّقًا بذلك كذبته التي كذبها!

جحا والملك والحكماء الثلاثة

في يومٍ من الأيام، وصل إلى مدينة جحا ثلاثة حكماء جاؤوا من بلاد بعيدة، وكان الملك قد استقبلهم في قصره وأكرم ضيافتهم.
وأثناء تناولهم الغداء، قال أحد الحكماء للملك:

“يا مولاي، هل في مدينتكم رجلٌ ذكي حكيم يمكنه حلُّ أصعب الأسئلة والألغاز؟”

فكّر الملك قليلًا، ثم تذكّر جحا، الذي كان مشهورًا بين الناس بخفّة روحه وسرعة بديهته، فأمر بإحضاره فورًا لمناظرة الحكماء.

عندما وصل الخبر إلى جحا، ارتدى أجمل ثيابه، وربط على رأسه عمامة بيضاء ليبدو وقورًا، ثم امتطى حماره وتوجّه إلى القصر بخطوات واثقة.
ولما وصل، وجد مجموعة كبيرة من الناس ينتظرون بشوق ليروا كيف سيجيب جحا عن أسئلة الحكماء الثلاثة.

ترجّل جحا عن حماره، ووقف أمام الحكماء قائلًا بثبات:

“أنا مستعد للاختبار.”

تقدّم الحكيم الأول وسأل:

“أخبرنا يا جحا، أين يقع مركز الأرض؟”

نظر جحا إلى الأرض، ثم أشار إلى المكان الذي يقف عليه حماره وقال بكلّ ثقة:

“هنا تمامًا. حيث تقف رجل حماري اليُسرى…”

دُهِش الحكيم وسأل مجدّدًا:

“وما دليلك؟”

فابتسم جحا وقال:

“إن شككتَ في كلامي، فاحفر هنا. وإن وجدتُ مخطئًا، فلك أن تقول عني ما تشاء.”

ساد الصمت، إذ لم يجد الحكيم ردًّا مناسبًا.

تقدّم بعدها الحكيم الثاني وسأل:

“كم عدد النجوم في السماء؟”

أجاب جحا فورًا:

“عددها يساوي عدد الشعر في جسد حماري.”

ارتفعت همهمة التعجّب بين الحضور، فسأله الحكيم:

“وكيف نتأكد من ذلك؟”

فردّ جحا بهدوء:

“يمكنك أن تعدّ شعر حماري، فإن طابق عدد النجوم، كنتُ صادقًا، وإن لم يطابقها، يمكنك فعل بي ما تشاء!”

ضحك الحضور، وارتبك الحكيم لأنّه أدرك استحالة التأكّد من هذه الإجابة.

أخيرًا، تقدّم الحكيم الثالث، وقال بثقة:

“حسنًا يا جحا… ما عدد الشعيرات في رأسي؟”

وأجاب جحا بلا تردد:

“هي بعدد الشعيرات في ذيل حماري.”

رفع الحكيم حاجبيه وسأل متحديًا:

“وما دليلك هذه المرة؟”

قال جحا مبتسمًا:

“بسيطة، يمكننا أن ننزع شعر ذيل حماري، ونعدّه، وكذلك شعر رأسك، وإن كان العددان متساويين، فإجابتي صحيحة!”

انفجر الحضور ضاحكين، ولم يجد الحكيم ردًّا مناسبًا على إجابة جحا، فلم يكن بالطبع يجرؤ على اقتلاع شعر رأسه بالكامل لإثبات صحّة الجواب. وأنّا الملك، فلم يتمالك نفسه من طرافة جحا ودهائه في الوقت ذاته.

أُعجب الحكماء الثلاثة بسرعة جواب جحا وفطنته، وسأله أحدهم:

“يا جحا، كيف استطعت أن تجيب عن أسئلتنا بهذه البراعة؟”

هزّ جحا كتفيه وقال ببساطة:

“عندما يكون السؤال بلا جوابٍ معقول… تصبح كلّ إجابة غير معقولة مناسبة!”

ضحك الجميع مرة أخرى، واعترف الحكماء أن جحا حقًّا رجلٌ ذكي يعرف كيف يخرج من المواقف الصعبة بحكمة وطرافة.

اقرأ المزيد من قصص المغامرات المسلية على حدوتة.

تصفّح قصص قبل النوم للأطفال.

قصة هود عليه السلام | سلسلة قصص الأنبياء للأطفال

هل تتخيل أن تعيش في أرضٍ مليئةٍ بالقصور العالية، والخيام الضخمة، والأنهار الجارية بين الجبال والرمال الذهبية؟
هناك عاش قومٌ أقوياء جدًا، يبنون بأيديهم الأبراج العالية ويقولون: “لا أحد أقوى منا!”
لكن… هل تدوم القوة إلى الأبد؟
في هذه القصة المدهشة، سنكتشف ما حدث لقومٍ نسوا شكر الله، وكيف أرسل إليهم الله نبيًّا اسمه هود عليه السلام ليذكّرهم بالحق، ويعلّمهم أن الشكر والإيمان هما سرّ النعمة والنجاة.
هيّا بنا نبدأ الحكاية، ونغوص في قصة قوم عاد الذين غيّر الله أرضهم بريحٍ عاتيةٍ لم يُرَ مثلها من قبل جزاءً لكفرهم!

قوم عاد

في زمنٍ قديمٍ جدًّا، قبل آلاف السنين، بعد أيام نبيّ الله نوح عليه السلام، عاش قومٌ يُسمَّون عادًا في أرضٍ واسعةٍ جميلة تُسمّى الأحقاف.
كانت تلك الأرض تمتد بين البحر من جهة والجبال من جهة أخرى، تتوسطها أوديةٌ خضراء تجري فيها المياه، وأراضٍ خصبة مزروعة بأنواعٍ كثيرةٍ من الزرع والثمار.
تُشرق الشمس على رمالها الذهبية فيضيء لونها كأنها من نور، ويهبّ النسيم بين أشجار النخيل فيملأ الجوّ بالحياة.

كان قوم عاد أقوياء الجسد عِظام البنية، يرفعون الحجارة الضخمة بسهولةٍ كأنها ألعاب، ويبنون بها القصور العالية ذات الأعمدة العظيمة التي تمتد نحو السماء.

وكانوا يقيمون أيضًا في الخيام الواسعة الجميلة المصنوعة من الأقمشة الغليظة والأعمدة الطويلة التي تشبه الجبال في ضخامتها وثباتها. امتلكوا الإبل والأغنام والأنعام الكثيرة، وعاش بعضهم في القرى المزدهرة المزينة بالأشجار والمياه، بينما سكن بعضهم في البادية بين الكثبان الرملية، يرحلون بأنعامهم من وادٍ إلى وادٍ بحثًا عن الطعام والماء.

كانت حياتهم مملوءةً بالنعم، وأرضهم عامرةً بالخيرات، لكن مع مرور الوقت تسلّل الغرور إلى قلوبهم.
صاروا ينظرون إلى قوتهم العظيمة بإعجابٍ، ويقولون في أنفسهم: من يقدر علينا؟ نحن الأقوى في الأرض!

ونسي هؤلاء القوم أن الله هو الذي منحهم القوة والرزق، فبدل أن يشكروه ويعبدوه، أعرضوا عن عبادته، وتركوا طاعته…
وبعد أن كانوا يعرفون ربهم الواحد، صنعوا بأيديهم أصنامًا من الحجارة والخشب، ثم عبدوها، وراحوا يسألونها المطر والنصر والرزق، وهي لا تسمع ولا ترى، ولا تملك لهم شيئًا!

دعوة هود عليه السلام

أحبّ الله قوم عاد، وأراد لهم الهداية بعد أن ضلّوا الطريق، فاختار من بينهم رجلًا صالحًا حكيمًا اسمه هود عليه السلام.
كان هود معروفًا بين قومه بصدقه وأمانته، يحكم بينهم بالعدل ويقول الحقّ مهما كان صعبًا. كان قلبه مليئًا بالرحمة والخوف على قومه، لا يريد لهم إلا الخير.

وفي يومٍ اجتمع الناس في ساحتهم الواسعة بين القصور والخيام، فوقف هود عليه السلام بينهم وقال بصوتٍ هادئٍ وواثقٍ:
“يا قومي، لماذا تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر؟ هذه التماثيل التي صنعتموها لا تنفعكم ولا تضركم. الله وحده هو خالقكم، وهو الذي أعطاكم هذه القوة والنعم، فاشكروه وعودوا لعبادته، فهو ربّكم وخالقكم.”

"أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم"  الشعراء 133-135.

كان كلامه ينبع من قلبٍ صادق مؤمن، يذكّرهم بالوقت الذي كانوا فيه شاكرين لله، وكيف رزقهم بالماء والزرع والأنعام. تحدث إليهم مرارًا، يومًا بعد يوم، يزورهم في مجالسهم ويكلم كبارهم وصغارهم، ويدعوهم بلينٍ وحكمةٍ وصبرٍ عظيم.

لكنّ أكثر القوم أعرضوا عنه، ضحك بعضهم وسخر آخرون، وقالوا بتكبرٍ:
“يا هود، لا نراك إلا بشرًا مثلنا، ولن نترك آلهتنا من أجلك!”

كان يمكن لهود عليه السلام أن يغضب أو ييأس، لكنه لم يفعل. ظلّ هادئًا، ينظر إليهم بعين الحزن والشفقة، ولا يطلب منهم مالًا ولا جاهًا، ويريد لهم النجاة؛ فالله وحده هو القوي، ومن يشكره تدُم له النعمة.

ومع ذلك، ازداد أكثرهم عنادًا، واشتدّ غرورهم بما يملكون من قصورٍ وأجسامٍ قويةٍ، وقالوا بفخرٍ وتعالٍ:
“من هو الذي يفوقنا قوة؟!”

كانوا يظنون أن قوتهم ستحميهم إلى الأبد، ولم يعلموا أن القوة لا تدوم…

ريح العذاب ونجاة المؤمنين

مرت الأيام، وهود عليه السلام لا يملّ من دعوته لقومه، يتحدث إليهم بالحكمة واللين، ويذكّرهم بنعم الله عليهم، لكن القوم ظلّوا على عنادهم وكبرهم. وكلّما نصحهم ازدادوا غرورًا، ليقولوا بثقةٍ عمياء: من أقوى منا؟!

"وقالوا من أشد منا قوة" - فصلت 15

ظلّوا على هذا الحال حتى استحقوا عذاب الله! وأنزل عليهم وعده الحقّ.
في البداية تغيّر الجوّ في بلادهم تمامًا، فصارت السماء غريبة المنظر، غابت عنها زُرقتها، وسكنت الرياح التي كانت تعوّدوا على نسماتها اللطيفة.
وقف القوم ينظرون إلى السماء بدهشة، لا يسمعون إلا سكونًا عجيبًا، كأن الأرض تتهيأ لانتظار شيءٍ قادم.

ثم، ومن بعيد، بدأ صوت الريح يُسمع خافتًا... يعلو قليلًا قليلًا، حتى صار كالزئير!
هبّت ريحٌ باردةٌ قوية، تقترب منهم شيئًا فشيئًا، تحمل الرمال والحصى، وتدور في دوّاماتٍ ضخمة.
في اليوم الأول ظنّ القوم أنها ستمرّ سريعًا، لكنّها ازدادت شدّةً يومًا بعد يوم، حتى صارت عاصفة هوجاء لا تُطاق.

كانت تقتلع الخيام الضخمة وتُلقيها بعيدًا، وتكسر الأشجار العالية، وتغمر الأرض بالرمال والغبار.
لم يعد أحدٌ يقدر أن يقف أمامها، فقد كانت ريحًا لا تُبقي ولا تذر، تهبّ بلا رحمة، تحمل الغبار والبرد، وتنهي كل شكل للحياة في طريقها.

استمرّت تلك الريح سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ متتابعة، لا يهدأ فيها الهواء، ولا يجد أحدٌ مأمنًا منها، حتى هلك كل من كفر وتكبّر على الله، الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم.

"فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون" فصلت 16

أما هود عليه السلام ومن آمن معه، فقد أنجاهم الله برحمته. كانوا في مكانٍ آمنٍ بعيد عن الرياح، يسمعون صوت العاصفة من بعيد ولا تمسّهم بسوء، لأنهم صدّقوا نبيهم وآمنوا بربهم.

وعندما انقضت العاصفة وسكنت الأرض، لم يبقَ في ديار قوم عاد أحدٌ من المكذّبين بدعوة هود عليه السلام!
هدأت الأرض بعد العاصفة، إنها عبرةٌ خالدة، تذكّر الناس في كل زمان بأن النعمة لا تدوم إلا بالشكر، وأن القوة لا تنفع من يعصي ربَّه.

وهكذا انتهت قصة قوم عاد، قصة العاصفة التي قضت على كبرياء من تجبروا، وأنجت أصحاب القلوب المؤمنة المطمئنة.

العبر المستفادة من قصة هود عليه السلام

تعلّمنا قصة هود عليه السلام دروسًا عظيمة لا تُنسى:

  1. الشكر سرّ النعمة: من يشكر الله على ما عنده، يبارك الله له ويزيده من فضله.
  2. القوة الحقيقية في الإيمان: فالله هو الأقوى، ومن يعتمد عليه لا يخاف أحدًا.
  3. الغرور طريق الهلاك: من يتكبّر وينسى خالقه، تزول عنه النعمة مهما كان قويًا.
  4. الصبر في الدعوة: مثل هود عليه السلام، الذي لم ييأس رغم سخرية قومه، بل واصل نصحهم برحمةٍ وثبات.
  5. العاقبة للمتقين: فالله أنجى المؤمنين ونجّاهم من العاصفة، لأن قلوبهم كانت مليئة بالإيمان.

هل أعجبتك هذه القصّة؟ اقرأ المزيد من قصص الأنبياء المليئة بالعبرة والفائدة على حدّوتة.

قصة نوح عليه السلام | سلسلة قصص الأنبياء للأطفال

هل سمعتَ من قبل عن النبيّ الذي دعا قومه إلى عبادة الله تسعمئة وخمسين سنة دون أن ييأس؟
إنه نبيّ الله نوح عليه السلام، أحد أعظم الأنبياء الذين علّمونا معنى الصبر والثبات والإيمان.
في هذه القصة المدهشة، ستتعرّف كيف صبر نوح على قومه، وكيف بنى السفينة العملاقة بأمر الله، وكيف نجّاه الله من الطوفان العظيم.
هيّا بنا نبدأ الرحلة ونتعلّم من قصة نبيّنا نوح عليه السلام دروسًا جميلة تبقى في قلوبنا دائمًا

بداية دعوة نوح عليه السلام

في زمنٍ بعيد جدًّا، كانت الأرض مليئة بأناس يعيشون في خيرٍ واسعٍ ورزقٍ وفير. كانت حياتهم هادئة، وبيوتهم عامرة، وأراضيهم مليئة بالزرع والثمار، والماء يجري في أنهارٍ صافية تروي حقولهم. أنعم الله عليهم بكل ما يحتاجونه ليعيشوا بسعادة وطمأنينة.

لكن مع مرور الوقت، بدأت قلوب الناس تبتعد عن شكر الله، ونسوا أنه هو الذي رزقهم كل هذا الخيرات!
بدؤوا يصنعون أصنامًا من الحجارة والخشب، يزيّنونها ويضعونها في أماكن مرتفعة، حتى صاروا يعبدونها بدلًا من الله عز وجلّ…
كانت تلك الأصنام لا تتكلم ولا تسمع، ومع ذلك اعتقد الناس أنها تجلب لهم النفع وتمنع عنهم الضرر. وهي مجرد كذبة اختلقوها!

وفي وسط هذا الضلال، كان بينهم رجل صالح طيّب القلب، يعرف الحقّ ولا يرضى بالباطل، اسمه نوح عليه السلام. كان من نسل النبي إدريس، وجدّه الرابع، وكان معروفًا بين قومه بالصدق والأمانة وحسن الخلق. اختاره الله ليكون نبيًّا لهم، ليذكّرهم بربهم الذي خلقهم وأنعم عليهم، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده بلا شريك.

سنوات من الصبر

بدأ نوح عليه السلام يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، وأن يتركوا عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ. كان قلبه مليئًا بالرحمة، يريد لهم الخير، ويخاف عليهم من الضلال.

 "لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ"- الأعراف 59

لم يكن يدعوهم غاضبًا، بل كان هادئًا ولطيفًا، ويتحدث إليهم بالحكمة واللين… دعاهم في الليل في بيوتهم، وفي النهار في الأسواق والمجالس.
كان يذكّرهم بنعم الله عليهم، ويحدّثهم عن الخالق الذي أعطاهم الحياة والرزق والأمان.
لكن أكثر قومه لم يسمعوا كلامه، وكذّبوه وسخروا منه، وقالوا إنه بشر مثلهم، فكيف يكون رسولًا؟

وبدلًا من أن يشكروا الله على من أُرسل إليهم ليهديهم، ابتعدوا عنه وازدادوا عنادًا. ومع ذلك، لم يتراجع نوح عليه السلام، ولم يغضب أو ييأس.
ظلّ صابرًا محتسبًا، يدعو قومه سنين طويلة جدًّا، لا يملّ ولا يتوقف عن الأمل في أن تعود قلوبهم إلى الحق.

مرّت 950 سنة كاملة ونوح عليه السلام مستمرّ في دعوته، والناس على حالهم لا يستجيبون للدعوة إلا قليل منهم، آمنوا به وصدّقوا رسالته. كانوا قلةً قليلة، لكنهم كانوا ثابتين على الإيمان، يزدادون صبرًا مع نبيّهم، وينتظرون رحمة الله.

بناء السفينة

كان نوح عليه السلام في شبابه يرعى الغنم، مثل كثيرٍ من الأنبياء الصالحين، يتأمل في خلق الله ويرى آياته في كل شيء حوله. ثم صار نجّارًا ماهرًا عندما أمره الله بصناعة السفينة التي ستكون سبب النجاة للمؤمنين.

"وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ" - هود 36

بدأ نوح يصنع السفينة من الخشب كما أمره الله، يعمل بجدٍّ وصبرٍ وإيمان. كان يقطع الأخشاب بعناية، ويجمع الألواح ويثبتها بالحبال والمسامير، وكل يوم يكبر البناء أكثر فأكثر. كان المكان من حوله صامتًا إلا من صوت المطرقة على الخشب، وصوت الريح التي تمرّ كأنها تراقب العمل العظيم.

ومع كل هذا الجدّ، كان قومه يمرّون من هناك فيسخرون منه ويضحكون، ويقول بعضهم: لماذا يصنع سفينة كبيرة على اليابسة، ولا يرون سببًا لذلك!

"وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ" - هود 38

لكن نوحًا عليه السلام لم يلتفت إليهم، ولم يتوقف عن العمل، لأن قلبه مليء بالثقة في أمر الله.

ظلّ يعمل في صمتٍ وإخلاص، حتى اكتملت السفينة تمامًا كما أراد الله، سفينة قوية، جميلة، ومستعدة لأمرٍ عظيم سيأتي قريبًا.

الطوفان والنجاة

حين جاء أمر الله، تغيّر وجه السماء، وبدأت الغيوم تتجمّع شيئًا فشيئًا حتى صارت كثيفةً وسوداء، وما لبث أن بدأ المطر يهطل غزيرًا، وانفجرت عيون الماء من جوف الأرض ففاضت الوديان والانهار، وانغمرت السهول، وارتفع منسوب المياه حتى غطّى اليابسة من حولهم.

وصعد حينها نوح عليه السلام ومن آمن معه إلى السفينة، كما أمرهم الله، ومعهم من كلّ نوع من الحيوانات زوجان اثنان، لحكمة أرادها الله جل وعلا. أُغلقت أبواب السفينة بإحكام، فيما استمرّ المطر والسيول يغمران اليابسة، وتحوّلت إلى بحر واسع، تلاطمت أمواجه كالجبال العالية.

كان منظرًا مريعًا، مخيفًا، لكنّ سفينة نوح بقيت صامدة تسير بثبات فوق تلك الأمواج القوية، بحفظ من الله عزّ وجلّ. كانت الرياح تعصف والماء يحيط بها من كل جانب، ومع ذلك بقيت السفينة تمضي مطمئنة.

أغرق الطوفان كلّ من كفر من قوم نوح وكذّب رسالته، ورغبَ عن دعوته للإيمان بالله وتوحيده. وكان من بين هؤلاء، ابن نوح عليه السلام. حيث رآه والده يسبح محاولاً النجاه، ودعاه لأن يركب معه في السفينة وسؤمن برسالته، لكن هذا الأخير عصى أمر أبيه، وتحجّج أنّه سيبحث عن ربوة أو تلّة يلجأ إليها. لكن…هيهات هيهات، فالطوفان عقاب من الله للكافرين، ولن ينجوَ منه أحد من العاصين.

"وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ" هود 42- 43

وهكذا، بعد أن أغرق الطوفان الكافرين، أمر الله الأرض أن تبتلع ماءها، والسماء أن تغلق أبوابها، فتوقّف المطر أخيرًا، وهدأت العيون المتفجّرة من باطن الأرض، وظهرت الجبال واليابسة من جديد، لتستقرّ سفينة نوح على قمّة جبل الجوديّ، وهو جبل يقع الآن على الحدود السورية العراقية.
فبدأ الماء يهدأ شيئًا فشيئًا، وظهرت الجبال من جديد، حتى استقرّت السفينة على جبلٍ مرتفعٍ آمن.

"وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" - هود 44

خرج نوح عليه السلام ومن آمن معه بسلام، والفرح يملأ قلوبهم، وشكروا الله الذي أنجاهم من الغرق وحفظهم برحمته. ومن بعدهم بدأت الحياة من جديد، حياة يسودها الإيمان والشكر لله الذي جعل الصبر والثبات طريقًا للنجاة.

الدروس والعبر المستفادة من قصّة نوح عليه السلام

تعلّمنا قصّة نوح عليه السلام كغيرها من قصص الأنبياء دروسًا عظيمة لا بدّ أن نحفظها، ونتذكّرها على الدوام، ومن هذه الدروس:

أولاً: الصبر

  • يجب أن نصبر على طاعة الله وأداء ما أمرنا به.
  • نصبر على أذى الناس وكلامهم السيئ.
  • نصبر في مواجهة الأعداء وصعوبات الحياة.
  • نبي الله نوح صبر كثيرًا، فقد دعا قومه إلى عبادة الله 950 سنة، وهذا يعلّمنا الثبات على الحق مهما طال الوقت.

ثانيًا: الحكمة في الردّ

  • الشخص العاقل يرد على الأكاذيب والشبهات بعقل هادئ وقلب طيب.
  • لا يغضب، بل يوضّح الحقيقة بالكلام الصحيح والدليل الواضح.

ثالثًا: الشجاعة والتمسّك بالحقّ

  • على الإنسان أن يقول رأيه بشجاعة.
  • يدافع عن الحق ولا يخاف من تهديد أو وعود الآخرين.
  • نبي الله نوح لم يتراجع عن دعوته رغم معارضة قومه.

هل أعجبتك هذه القصّة؟ ما رأيك في قراءة المزيد من قصص الأنبياء على حدّوتة؟

رحلة سليم إلى القدس | سلسلة حكايات فلسطين

شوق في القلب إلى القدس

في طرف القرية الهادئة، كان يقف بيت الجدة مثل شاهدٍ على الزمن، مبنيًّا من حجارة بيضاء قديمة نحتتها الشمس والرياح عبر السنين، سقفه مغطّى ببلاطٍ أحمر لامع، يزداد بريقه كلما داعبه ضوء الغروب الذهبي. أمام البيت، تمتد حديقة صغيرة تحمل رائحة الحياة: شجرة ليمون متدلية الثمار، شجرة رمان حمراء كحبات الياقوت، وآنية فخّار قديمة زرعت فيها الجدة نعناعًا يفوح عطْره في الأرجاء كلما هبّت نسمة عليلة. بجانب الباب الخشبي العريض المزوّد بمقبض نحاسي لامع، علّقت الجدة قفّة من القشّ فيها خبز الطابون الساخن يبرد ببطء، ناشرًا رائحة تملأ المكان دفئًا وطمأنينة.

جلس سليم في الفناء الواسع، يراقب أرضيته المرصوفة بحجارة ملساء رتبتها الجدة بعناية لتبقى صلبة رغم مرور الأعوام. في الزاوية بئر ماء قديمة معطًّى بغطاء خشبي، تحيط به نباتات بريّة صارت جزءًا من ذاكرة المكان. كان كل ركن من البيت يحكي قصة، والجدة تحرص أن يبقى كل شيء كما تركه الأجداد، كأنها تخاف أن تنطفئ الحكاية إذا تغيّر شكل الحجر أو رائحة التراب.

نظرت الجدة إلى حفيدها، وقالت بصوتٍ حنون، كأنها تكرّر درسًا يعرفه قلبها قبل لسانها:
– “في القدس مسجد مبارك اسمه المسجد الأقصى، باركه الله وجعله مكانًا عزيزًا على قلوب المؤمنين.”

رفع سليم رأسه بسرعة، وعيناه تتألقان بفضولٍ لا ينطفئ، وقال بشغف:
– “يا جدّتي، هل سنذهب يومًا لرؤيته؟”

ابتسمت الجدة، وتجاعيد وجهها ازدادت إشراقًا، وقالت:
– “بإذن الله يا بني. القدس مثل جوهرة محفوظة في قلب الزمان، كل من يراها يزداد حبًّا لها. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تنعم فيه عيناك برؤيتها.”

ظلّ كلام الجدة يتردّد في أذن سليم كأنشودة. جلس صامتًا، لكن قلبه كان معلّقًا هناك، بالمسجد الأقصى. أخذ يتخيّل القباب اللامعة تعكس نور الشمس، والأسوار القديمة التي تحرس المدينة منذ قرون، والأبواب الضخمة التي تنفتح على طرقات ضيّقة مليئة بالحياة. تخيّل نفسه يمشي في تلك الأزقّة، يلمس حجارتها، يسمع دعاء المصلّين يتردّد بين المآذن، ويشم رائحة الخبز الطازج الذي تحبّه جدته.

وفي تلك الليلة، وهو يتهيّأ للنوم، رفع كفّيه الصغيرتين ودعا الله أن يحقق أمنيته، ثم غفا سريعًا. وفي حلمه، وجد نفسه في قلب القدس، يسير بخطوات واثقة، كأن المدينة فتحت له ذراعيها لتقول: “مرحبًا بك يا سليم، كنت في قلبي منذ زمن”

بداية الرحلة

في صباحٍ من الصباحات تحقق الحلم! استيقظ سليم على صوت والده وهو يقول:

– “استعد يا سليم، اليوم سنزور القدس.”

قفز سليم من فراشه ووجهه يضيء فرحًا. غسل وجهه بسرعة وارتدى أجمل ما في خزانته. حمل حقيبته الصغيرة، وفيها دفتر رسم وألوان، فقد قرّر أن يرسم كل ما يراه في رحلته.

جلس في السيارة إلى جانب والده، وبدأت الطريق تمتد أمامهما. على الجانبين صفوف طويلة من أشجار الزيتون، جذوعها قوية كأنها تحرس الأرض منذ مئات السنين، وقطرات الندى تلمع على أوراقها الخضراء، والعصافير تطير بين الأغصان وتغرد بمرح.

نظر سليم من النافذة بعينين لامعتين وقال:
– “كم هي مباركة أرضنا يا أبي!”
ابتسم الأب وأجاب:
– “نعم يا بني، هذه الأرض تشهد على قصص الأنبياء، وتحمل في ترابها حضارة عريقة.”

مرّا بقرى هادئة بيوتها من الحجر الأبيض، وأسقفها مقوّسة بلون الطين، وأمامها أحواض زهور ملونة. في الطرقات كان الأطفال يركضون بمرح، بعضهم يحمل كعكًا بالسمسم، وآخرون يلوّنون السماء بطائرات ورقية صغيرة.

فتح سليم دفتره وبدأ يرسم بسرعة: شجرة زيتون نضرة، بيتٌ قديمٌ بباب خشبي، بئر ماء بجانب حديقة صغيرة، وتلّة خضراء تمتد نحو الأفق. كان يشعر أن الطريق نفسه يحكي له قصة طويلة قبل أن يصل إلى القدس.

أغمض عينيه للحظة، وتخيّل أن الأشجار تلوّح له بيدها، وأن الحجارة تهمس له: “أهلاً بك يا سليم، ستزور اليوم مدينة لا تُنسى.”

أبواب القدس وأسواقها

بعد رحلة ممتعة، ظهرت أسوار القدس من بعيد، شامخة بلونها الحجري العتيق. اقتربت السيارة شيئًا فشيئًا حتى توقّفت عند أحد أبواب المدينة القديمة. كان الباب ضخمًا مقوّسًا مبنيًّا من حجارة داكنة صقلتْها أيدي الناس وملامح الزمن. مدّ سليم يده الصغيرة ولمس الجدار البارد، فشعر وكأنه يلمس صفحةً من كتابٍ قديمٍ يروي قصص الأبطال والتجّار والحجّاج الذين مرّوا من هنا.

دخل مع والده إلى البلدة القديمة، فانفتحت أمامهما أزقّة ضيقة مرصوفة بالحجارة. البيوت متلاصقة، شبابيكها صغيرة مزيّنة بأصص الريحان، ومن فوقها تدلّت أقواسٌ بيضاء تحمي الطريق من الشمس، وتزيد المكان سحرًا ودفئًا.

امتلأت أذنا سليم بأصوات الباعة:
– “خبز طازج بالسمسم!”
– “زيت وزيتون مبارك!”
– “بهارات من أرض فلسطين!”

وتداخلت الأصوات مع الروائح الزكية: رائحة الخبز الطازج، والزعتر المطحون، والقرفة التي تذكّره ببيت الجدة. وقف مدهوشًا أمام بائع يعرض أثوابًا مطرزة بخيوط حمراء وخضراء، فسأله والده:
– “هل ترى يا سليم؟ كل غرزة في هذه الثياب تحكي قصة من قرية أو مدينة.”

ابتسم سليم وهو يلمس القماش، ثم أسرع نحو محل آخر يبيع الفخار الأزرق المزين برسومات الطيور.

لكن وسط الزحام، لمح رجالًا بملامح عابسة، يرتدون ثياب العساكر، يتحركون بخشونة ويزاحمون الناس. شدّ سليم يد والده وقال بهمس:
– “أبي، أنا خائف…”
أجابه الأب بهدوء:
– “لا تخف من هؤلاء الجنود يا صغيري، ليسوا سوى لصوص يحاولون إزعاج الناس وسرقة أرضهم، لكن المدينة تعرف كيف تحافظ على تراثها وخيراتها، وهي أقوى من كل هذه المحاولات.”

شعر سليم بالراحة من كلام والده، وقرر أن يتابع تأمله، فتح دفتره ودوّن: “القدس مدينة تفوح رائحتها بالزعتر والخبز، وتلمع حجارتها كأنها تبتسم للزائرين.”

أول لقاء مع المسجد الأقصى

واصل سليم السير مع والده بين الأزقة حتى وصلا إلى ساحة واسعة يغمرها نور العصر. هناك، وقف سليم مبهورًا، وقد اتسعت عيناه دهشة، وأمامه استقرّ المسجد الأقصى بكلّ جماله.

كانت القبة الذهبية تتلألأ تحت صفحة السماء الزرقاء، في منظر بهيّ. وأحاطت بالمسجد أشجار نضرة تتمايل أوراقها بهدوء مع لنسيم العليل، فيما كان الحمام يرفرف في الأرجاء مطمئنًا، وكأنه يعرف أن هذه الأرض مباركة. ثمّ ارتفعت في الارجاء أصوات آذان العصر، فزادت المكان سحرًا وجماباً

اقتربا من المتوضأ، فغسلا وجهيهما ويديهما بماءٍ باردٍ رقراق، أحسّ سليم معه بصفاءٍ عجيبٍ يغمر قلبه. دخل مع والده المسجد الأقصى، فشعر كأنّه يدخل قلب التاريخ نفسه. كانت الأعمدة الرخامية البيضاء ترتفع عالية في السماء، مزخرفة بنقوشٍ هندسيةٍ دقيقةٍ تتشابك كأنّها نجمات صغيرة من الضوء. الزخارف الملوّنة تملأ الجدران، والخشب المنقوش في السقف يروي حكاياتٍ عن أيدٍ بارعةٍ صلّت وهي تبنيه.

وقف سليم بجانب والده في الصف، وصلّيا العصر مع جماعة المصلّين. كان صوت الإمام يملأ القاعة بخشوعٍ مهيب، والنسيم القادم من النوافذ العالية يحمل معه رائحة الطهر والسكينة. شعر سليم أن صلاته هنا تختلف عن أي صلاةٍ صلاّها من قبل… كأنّ السماء أقرب، وكأنّ الدعاء يصعد دون عناء.

بعد الصلاة، جلسا تحت شجرة زيتون معمّرة، جذعها العريض يشبه ذراعًا عظيمة تحضن المكان. أخرج سليم دفتره بسرعة، وبدأ يرسم القبة بخطوطٍ مرتعشة من شدّة الفرح. كان قلبه يخفق بقوة، وكأنه يكتب بيده ذكرى لا تُمحى.

اقترب والده منه وقال بلطف:
– “المسجد الأقصى أمانة غالية يا سليم. من يحبّه، يحميه بالدعاء، وبالعمل الصالح، وبالذكر الطيب.”

رفع سليم رأسه بحماس وقال بثقة:
– “سأحمله في قلبي دائمًا يا أبي… ولن أنساه أبدًا.”

حلّقت مجموعةٌ من الطيور البيضاء فوق الساحة، فرفع سليم بصره نحوها، يراقبها وهي تدور في سماء القدس بطمأنينة. شعر في تلك اللحظة أن حتى الطيور تصلي بطريقتها، وأن زيارته الأولى للأقصى لم تكن مجرد رحلة، بل عهدًا بينه وبين هذا المكان المبارك، سيحمله في قلبه ما عاش.

حكاياتٌ من الزمن

بعد أن فرغ سليم ووالده من جولتهما في الساحة، اتجها إلى السوق القريب من المسجد الأقصى ليستريحا. كان السوق نابضًا بالحياة: دكاكين صغيرة متلاصقة، بسطات مليئة بالفاكهة والبهارات، وباعة ينادون بمرح يجذب المارة. رائحة القهوة الطازجة امتزجت مع رائحة الخبز والكعك بالسمسم، فحاول أنف سليم التقاطها كلها بحماس!

جلس الأب وابنه عند دكّان يبيع الكتب والخرائط القديمة. كان صاحبه شيخًا مسنًّا، لحيته بيضاء وابتسامته هادئة، وعيناه تلمعان كأنهما تعرفان أسرار المكان. نظر إلى سليم وقال بلطف:
– “هذه أول زيارة لك يا صغيري، أليس كذلك؟”

أجاب سليم وهو يهز رأسه بحماس:
– “نعم يا عم، وقد شعرت أنني أعرف المدينة منذ زمن!”

ضحك الشيخ وقال:
– “هذا لأن القدس تسكن في قلب كل مؤمن قبل أن يراها. مرّ من هنا العلماء والرحّالة والتجّار، كل واحد منهم ترك أثرًا في حجارتها وأسواقها. إنها مدينة لا تنسى زائريها.”

أشار الشيخ إلى رفوف الكتب والبطاقات، ثم تابع:
– “كل حجر هنا يحكي قصة، وكل زقاق فيه ذكرى. حتى وإن جاء المحتلّون ليزعجوا الناس ويسرقوهم، تبقى القدس مثل شجرة زيتون، عميقة الجذور، لا تسقط أبدًا.”

جلس سليم مأخوذًا بكلامه، ثم فتح دفتره وكتب: “القدس مدينة تحفظ الحكايات، مثلما تحفظ الجدة قصص الأجداد.”

مرّ أمامهم طفل يحمل عربة صغيرة مليئة بالكعك الساخن، يوزعها مبتسمًا على الزبائن. ضحك الشيخ وقال:
– “حتى هذا الكعك له قصة هنا، فالقدس تحفظ طعمها ورائحتها كما تحفظ أبوابها وأسوارها.”

شعر سليم أن السوق ليس مكانًا للبيع والشراء فقط، بل كتابًا مفتوحًا للحكايات، كل شخص فيه سطر، وكل زائر كلمة جديدة. نظر إلى والده وقال:
– “أريد أن أحفظ هذه القصص كلها، لأرويها لأصدقائي.”
ربّت والده على كتفه بفخر، وقال:
– “وهكذا تصبح أنت جزءًا من الحكاية.”

وعدٌ لا يُنسى

مع اقتراب الغروب، عاد سليم مع والده إلى الساحة الواسعة أمام المسجد الأقصى. كانت السماء قد بدأت تتلوّن بخطوط حمراء وبرتقالية، والقبة الذهبية تعكس ضوء الشمس الأخير فتزداد جمالًا وبهاءً. جلسا قليلًا على طرف الدرج الحجري، والنسيم يحرّك أوراق الزيتون في هدوء.

وقف سليم يتأمل المشهد طويلًا، ثم التفت إلى والده وقال بصوتٍ مملوء بالعزم:
– “أبي، أعدك أنني سأعود إلى القدس مرات كثيرة. أريد أن أحفظ كل زاوية فيها، وأرسم كل شجرة وكل حجر.”

ابتسم والده ووضع يده على كتفه وقال:
– “ومن يحب القدس حقًّا، يحملها في قلبه حتى لو ابتعد عنها. وكلما حدثتَ أحدًا عن جمالها، تكون قد عدت إليها من جديد.”

أخرج سليم ورقة ملوّنة من حقيبته، ورسم عليها بسرعة قبة المسجد الأقصى، ثم كتب تحتها: “القدس في قلبي إلى الأبد.” رفع الورقة عاليًا وكأنه يرسل وعده مع نور الغروب.

في طريق العودة بالسيارة، ظل سليم ينظر من النافذة. رأى الأطفال يلعبون أمام بيوتهم، والباعة يغلقون دكاكينهم، والطيور تعود إلى أعشاشها. لكن قلبه ظل معلّقًا هناك، في الساحة الكبيرة حيث القبة المضيئة.

وعندما وصل إلى البيت، كانت جدته بانتظاره عند الباب. ركض إليها وهو يهتف:
– “يا جدتي! رأيت المسجد الأقصى بعيني… كان أجمل من كل ما حكيته لي!”

دمعت عيناها وهي تضمّه وتقول:
– “بارك الله فيك يا بني. لقد عدت ومعك نور من القدس.”

جلس سليم بجانبها يصف لها تفاصيل رحلته: الأزقة الضيقة، الأسواق المليئة بالبهارات، الأطفال الذين كانوا يلعبون، والحمام الذي يرفرف في ساحات المسجد. عرض عليها دفتره المليء بالرسوم، فابتسمت وقالت:
– “الآن صرتَ أنت من يحكي الحكاية، وسترويها يومًا لأطفالك كما رويتها لك.”

وفي تلك الليلة، نام سليم وهو يشعر أن قلبه كبر قليلًا. كان يعرف أن رحلته لم تنتهِ، بل بدأت، وأن الوعد الذي كتبه سيبقى معه دائمًا: أن القدس بيت له، وأن الأقصى سيظل في قلبه مهما طال الزمن.

هل أعجبتك هذه القصّة؟ اقرأ المزيد من قصص فلسطين للأطفال الآن على موقع حدّوتة

المهندسة نملة | قصة عن حياة النمل وتنظيمه

لنتعرّف على المهندسة نملة الصغيرة، لكنها ليست كأيّ نملة!
إنها مهندسة القرية التي تحبّ التفكير، والرسم، ووضع الخطط الدقيقة. عندما لاحظت أن بيوت النمل أصبحت ضيّقة بعد أن كبر عددهم، قرّرت أن تخترع تصميمًا جديدًا يجعل القرية أكثر اتساعًا وراحة.

تابعوا كيف تعاونت نَمْلة مع صديقاتها، وكيف تعلّمن أن كل فكرة عظيمة تبدأ بملاحظة صغيرة، وكل بناء قوي يبدأ بخطةٍ ذكية!

المهندسة نملة: اسمها نَمْلة… لكنها مهندسة!

في صباحٍ دافئٍ عند جذع شجرة الزيتون، خرجت نملة صغيرة بلون الشوكولاتة الداكنة. كان اسمها “نَمْلة” كما تناديها أمها، لكنها بين رفيقاتها تُعرف بالمهندسة، لأنها تحب الملاحظة والقياس، وتحب أكثر أن ترسم الخطط على الرمل بخطوط دقيقة.

وقفت نَمْلَة تتفقد الممر المؤدي إلى القرية، فلاحظت أنه صار ضيقًا بعدما ازداد عدد النملات. رفعت رأسها وقالت بهدوء:

“علينا أن نوسع البيوت، ونبني أنفاقًا للهواء، ومخازن تكفينا طوال الشتاء!”

اقتربت منها صديقتها “حَبّة”، وهي تحمل قشرة قمح تكاد تسقط من ثقلها، وقالت بحماس:
“فكرة رائعة! كيف نبدأ يا مهندسة نملة؟”

أشارت نَمْلَة إلى الشمس قائلة:

“أولًا، نرسم الاتجاهات، فالشمس دليلنا. ثم نضع علاماتٍ برائحةٍ خفيفةٍ على الطريق حتى لا تضلّ أخواتنا طريق العودة.”

وبينما كان الجميع يعمل بجد، أقبلت الملكة في جولةٍ تفقّدية، تحيط بها الحارسات. وقفت المهندسة نملة باحترام، فابتسمت الملكة وقالت بصوتٍ دافئ:

“التعاون قوتنا، والتفكير والتخطيط هما سرّ نجاحنا.”

فرحت النملات الصغيرات بكلمات ملكتهن التشجيعية، وانطلقت فرقة الاستطلاع بقيادة المهندسة نملة، التي تحمل شعيرة سوداء تستعملها كمسطرة. كانت تقيس المسافات بين جذور الشجرة، وتضع نقاطًا صغيرة على الرمل وهي تقول:

“هنا سيكون المدخل، وهنا غرفة البيض، وهناك المخزن الجاف.”

ثم وقفت أمام الجميع وقالت بحزمٍ وفرح:

“لنبدأ اليوم! فبيوت النمل تُبنى بالصبر، والحُب، والنظام.”

تذكّرت نملة حين كانت صغيرة تضيع بين الحبوب، لولا العلامة التي تركتها أمها لتدلّها على الطريق. منذ ذلك اليوم، وهي تؤمن أن العلامات الصغيرة تصنع فرقًا كبيرًا.

رفعت حفنة من التراب وقالت مبتسمة:

“كل حبة هنا لها مكانها، وكل فكرة تبدأ بسؤال… ثم خطوة، ثم خطوة أخرى!”

خريطةٌ على بقعة رمل

جمعت المهندسة نملة مجلسًا صغيرًا في ظل ورقةٍ خضراء كبيرة، وجلست مع صديقاتها حول بقعة صغيرة من الرمل فرشتها كأنها لوح رسم. بأطرافها الدقيقة بدأت ترسم خرائط مصغّرة لقرية النمل: المدخل، نفق الهواء، قاعة الأمهات، مخزن الحبوب، غرفة المطر، وممر الطوارئ.

قالت وهي تشير إلى الرسوم الصغيرة على الرمل:

“المدخلُ سيكون مائلًا ليمنع السيول من الدخول. نفقُ الهواء يصعد للأعلى ليدفع الحرّ إلى الخارج. قاعة الأمهات يجب أن تكون هادئةً وبعيدةً عن الضجيج. والمخزن سنغطيه بألياف العشب ليبقى جافًا. أما غرفة المطر، فنضع فيها التراب المبلل بعيدًا عن الحبوب، وممر الطوارئ سنستخدمه إذا أغلق المدخل يومًا ما.”

لمعت عينا نَمْلة وهي تلمس الجدار بقرون استشعارها وقالت:

“تخيّلي يا حَبّة، نحن لا نملك عيونًا مثل البشر، لكن عندنا لغةٌ خاصة من الروائح! عندما أمشي أترك أثرًا خفيفًا من رائحةٍ مميزة، فإذا مرّت أختي بعدي عرفت الطريق الصحيح. كأننا نكتب على الجدران، لكن بالحبر السريّ الذي لا يقرأه إلا النمل!”

ضحكت “حَبّة” وقالت بدهشة:

“يعني جدران بيوتنا مليئة بالقصص واللافتات، لكنها مكتوبة بروائح لا يراها أحد؟”

أجابت المهندسة نملة بفخر:

“بالضبط! وهكذا لا نضيع أبدًا، حتى في أحلك الظلام.”

في تلك اللحظة اقتربت مجموعة من جنود النمل الأقوياء الذين يحرسون المداخل. قالت لهم نملة بثقة:

“ستقف مجموعة هنا ومجموعة هناك. نحن لا نؤذي أحدًا، لكن نحمي بيتنا بكل حبٍّ ونظام.”

ثم بدأت توزّع الأدوار: عاملات للحفر، وأخريات لنقل التراب، وفريق يجمع قطع القشّ، وآخر يحمل قطرات الماء على ظهره الصغير. ارتفعت أصوات النملات الصغيرات بفرحٍ وهمة:

“معًا… معًا! نعمل بجدّ بلا تعب!”

ولكي لا يتعب أحد، علّمتهم المهندسة نَمْلة إيقاع العمل: دقيقتان للحفر، ثم تبديل المواقع، ثم راحة قصيرة قبل العودة من جديد. كان العمل يشبه أغنيةً جماعيةً متناغمة، تُغنّيها النملات وهنّ يبنين بيوتهن بحماس.

ثم أخرجت نَمْلة قطعة قشر صغيرة صنعتها كبابٍ للتجربة، فتحته وأغلقته لتُريَ الصغيرات كيف تعمل العتبة. جرّبن المشي فوق ممرٍّ ضيّق دون أن يصطدمن، ثم شرحن لبعضهن ما تعلّمنه. ابتسمت نملة وقالت بلطف:

“من تفهم الفكرة تستطيع أن تُعلّم غيرها، وهكذا نبني بيتًا… وعقلًا أيضًا!”

أنفاق تتنفس بالحياة

بدأت المعاول الصغيرة تعمل في صمتٍ جميل؛ أسنانٌ دقيقة تقطع التراب، وأرجلٌ نشيطة تنقله في سلالٍ من الحبيبات. كانت المهندسة نملة تراقب بعين الخبيرة كل زاوية وتقول برفق:

“لا نحفر بشكلٍ مستقيم تمامًا، فالانحناء يجعل السقف أقوى!”

كانت العاملات يشكّلن قبابًا صغيرة من الداخل، فابتسمت نَمْلة وقالت:

“السقف يجب أن يكون نصف دائري، حتى يتوزّع عليه الوزن فلا ينهار بسهولة.”

ثم جاءت نملة أخرى تحمل أعواد عشبٍ رقيقة لتثبّتها في الجدران، فهزّت نملة رأسها إعجابًا وقالت:

“رائع! هذه الأعواد مثل الدعامات، لكنها يجب أن تبقى قليلة حتى لا تمنع الهواء من المرور.”

وفي أعلى النفق حفرت نَمْلة فتحةً صغيرة وهي تشرح بحماس:

“وهذه مدخنة الهواء! عندما تشتدّ الحرارة، يخرج الهواء الساخن من هنا، ويدخل البارد من الممر السفلي.”

ثم رسمت بقدمها دائرةً صغيرة في زاوية قريبة وقالت:

“هنا سنبني غرفة التجفيف، نضع فيها الحبوب إذا أصابتها الرطوبة، ونقلبها من وقتٍ لآخر حتى لا تتعفن.”

بينما كنّ يعملن، تسللت إلى الأنفاق رائحةُ الليمون القادمة من حديقة الجيران، فقالت نَمْلة بابتسامةٍ ذكية:

“الروائح تحمل لنا أخبار الطقس! فعندما تشتدّ رائحة التراب نعرف أن المطر قريب.”

وفي أثناء جولتها، ظهرت الملكة بين الحارسات، فسارعت نَمْلة لتطمئنها قائلة:

“الأساس ثابت يا مولاتي، والممرات بعيدة عن بعضها حتى لا تلتقي في نقطةٍ واحدة.”

ابتسمت الملكة برضا وقالت:

“بارك الله في فِكركِ يا صغيرة، لقد جعلتِ الأنفاق تنبض بالحياة!”

ارتفعت أصوات الفرح، وواصلت النملات العمل في نظامٍ وانسجام. كل واحدة تعرف دورها، وكل خطوة محسوبة بدقة.

وقبل أن تنهي جولتها، وضعت المهندسة نملة علاماتٍ صغيرة لتدلّ الطريق: رائحة الليمون للمخزن، النعناع لغرفة التجفيف، والتراب الرطب لقسم المطر.

ثم مرّت بأطرافها على السقف تتحسّسه بحذر، فإذا وجدت حبةً رخوة بدّلتها بأخرى أشدّ صلابة، وهي تقول بسرور:

“هكذا فقط… تتنفس أنفاقنا بالحياة!”

اقرأ أيضًا: رحلة إلى مملكة النحل | مغامرة خياليّة حول صناعة العسل

المخازن المليئة بالكنوز

بعد أن اكتملت الأنفاق الكبرى، قادت المهندسة نملة فريق التموين بحماس وقالت بصوتٍ مفعمٍ بالفخر:

“البيت من دون مخزن… مثل أغنيةٍ بلا لحن!”

انطلقت العاملات في صفوفٍ منظمة تشبه خيوطًا من الحياة تتحرك فوق التراب. خطٌّ يجمع القمح الذهبي، وآخر يجلب بذور الكزبرة واليانسون، وثالث يلتقط فتات التمر الحلو.

وكانت كل مجموعة تترك خلفها رائحةً مميزة لتعرف النملات بداية الطريق ونهايته، كأن الأرض نفسها تكتب خريطة عطِرة لرحلتهن.

عند مدخل القرية وقفت نَمْلة تراقب بعينٍ خبيرة وقالت:

“الحبّة الخفيفة نأكلها أولًا، والثقيلة نخزّنها للمستقبل. أمّا المبلّلة فنرسلها إلى غرفة التجفيف فورًا.”

بدأت الصغيرات بترتيب الحبوب على شكل أكوام صغيرة، وفي وسط كل كومة حجرٌ أملس للعدّ.

وشرحت المهندسة نَمْلة لرفيقاتها:

“بين كل كومة وأخرى ممرّ يسع نملتين فقط، حتى لا نصطدم ببعضنا. النظام يجعل العمل أسرع وأجمل!”

ثم أشارت إلى أوعية الماء الصغيرة وقالت:

“لا نشرب من بركةٍ واحدة، بل نوزّع الماء في أكوابٍ من أوراق الشجر، ونبدّلها عند الغروب حتى تبقى نظيفة.”

ولأجل النظافة، خصصت نَمْلة غرفةً صغيرة للنفايات المؤقتة، تُنقل كل مساء بعيدًا عن القرية مع فريقٍ خاص.

وقبل أن تغيب الشمس، اجتمعت النملات يتأملن المخازن الجديدة وهي تلمع كأنها كنوزٌ من ذهبٍ.

سألت “حَبّة” بنبرة قلقة:

“هل تكفينا هذه الحبوب حتى الربيع يا نَمْلة؟”

أجابت المهندسة بثقةٍ وهدوء:

“إذا حافظنا على النظام، فسيبقى مخزننا آمنًا مليئًا مهما طال الجفاف.”

ولأن الحذر واجب، أضافت نَمْلة بحكمة:

“الفئران والطيور قد تسرق الحبوب، لذا سنجعل حارساتٍ يتفقدن المكان كل ساعة، ومن تتغيب تُعوّضها أختها.”

ثم نظرت إلى الجميع بابتسامةٍ دافئة وقالت:

“لا نريد تعبًا بلا ابتسامة… فبالنظام، والحب، والتعاون، نحافظ على كنوزنا الصغيرة!”

الليلة الماطرة

في ليلةٍ شتوية باردة، سمعت نَمْلة هدير المطر الخافت فوق الأرض. تحسّست الهواء، فاستنشقت رائحة التراب القويّة… كانت السماء على وشك البكاء. صفّرت بإشارات الأرجل، فاستجابت القرية كلها كأنها قلب واحد ينبض بالحركة.

أومأت إلى فريق الأبواب قائلة:

“أغلقوا المدخل الأول، وضعوا العتبة المائلة!”

ثم أشارت إلى فريق الطوارئ:

“افتحوا الممر الجانبي وارفعوا جدار الوقاية بسرعة!”

بدأت قطرات الماء تتسلل إلى الأنفاق، فتوجهت نَمْلة إلى غرفة المطر:

“انقلوا التراب المبلل إلى هنا، ولا تقربوا المخزن أبدًا!”

كانت بعض الصغيرات خائفات، فاقتربت منهن بلطف وقالت:

“لا تخفنّ… الخطة معنا، والخوف يتلاشى عندما نعمل معًا.”

اشتدّ المطر فجأة، وتحركت السحب لتزيد تدفّق المطر قوةً. صاحت نَمْلة بسرعة:

“نفّذوا تبديل المواقع الآن!”

تحركت العاملات بتناغمٍ تام، كأنهن يرقصن رقصةً محفوظة منذ القدم. بقيت الممرات جافة، فالهواء الساخن صعد من المدخنة ودفع الرطوبة خارج الأنفاق.

من بعيد، كانت الملكة تراقب بطمأنينة، بينما عملت النملات بلا كلل. مرّت الساعات، وهدأ كل شيء أخيرًا. تفقدت المهندسة نَمْلة الجدران بقرون استشعارها، فوجدتها صلبة وثابتة. فتحت العتبة قليلًا، فدخل نسيمٌ خفيف يحمل معه رائحة المطر المنعشة.

صفّق الجميع بأرجلهم الصغيرة اللامعة، همست “حَبّة”:

“لولا الخريطة وممر الطوارئ…”

ابتسمت نَمْلة وقالت:

“التنظيم يساعدنا على مواجهة المشاكل قبل أن تحدث. وعندما ارتفع غناء صرصور الليل، علمت أنّ الرياح ستغير اتجاهها. همست لنفسها: إذا انعطف الهواء، يجب أن أفتح ثقب التهوية الثاني قرب الجذر!

رفعت بإبرة صنوبرية قليلًا من التراب، فدخل الهواء إلى القنوات بسلاسة، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه من الهدوء والنظام، بينما كانت القرية بأمان تحت سقفها الصغير، تشعر بالفخر والاطمئنان.

افتتاحُ البيت

طلعت الشمس بعد الليلة الماطرة، وكان التراب يلمع كأنه خبزٌ طازج خرج للتو من التنّور! عند مدخل البيت، وضعت نملةٌ لوحةً من قشرة شجرة مكتوب عليها:

“بيت النمل الجديد… مرحبًا!”

دعت الملكة الجميع لحفل افتتاح بسيط، مررن جميع النمل عبر الممر المائل دون أن تبتلّ أقدامهن، واستنشَقْن نسمةً باردة صاعدة من نفق الهواء. رأينَ قاعة الأمهات هادئةً ودافئة، والمخازن مرتّبةً كأنها أساور جميلة، وفي غرفة التجفيف قلبن الحبوب وغنّين معًا: “نظام… عمل… أمان”.

وقفت نملة لتخبر الصغيرات: “لكل واحدةٍ منا مهمة: حراسة، قياس، حمل، وترتيب. الروائح هي رسائلنا السرية، والسقف نصف الدائري يجعل البيت أقوى، والمطر… لا يخيف بيتًا خطط لمستقبله”.

رفعت “حَبّة” قشّةً مثل العلم وقالت: “إلى العمل… فالموسم طويل!”، وضحكت نملة صغيرة: “والبيت واسع… يتسع لكل الأحلام!”

في المساء، عندما سكنت الحديقة، صعدت نملة إلى أعلى التلة، تنظر إلى القرية من بعيد. كان بإمكانها رؤية الأنفاق كخيوط من نور تحت الأرض، همست لنفسها: “الهندسة ليست مجرد حجارة وتراب… بل رحمة نتشاركها، ونظام يجعل القلوب آمنة”. ثم عادت تجري، وفي رأسها تدور لفكرةٍ جديدة.

بعد الافتتاح، خُصِّصَت ساعة للزيارة التعليمية، وجاء النمل من القرى المجاورة. شرحت لهم المهندسة نَمْلَة كل شيء وقالت: “العلم إذا سافر… أزهر!”، ثمّ كتبت أسماء الفرق وأفضل فكرةٍ في اليوم في سجلٍ صغير برائحة العسل، لتبقى الحكايات وقودًا للعمل حين يتعب الجسد.

أسئلة حول القصّة

1- لماذا تسمى النملة “مهندسة”؟ ماذا تحب أن تفعل؟

2- ماذا فعلت النملة لتصبح بيوتهن آمنة وجافة أثناء المطر؟

3- كيف تعرف النملات الطريق داخل الأنفاق؟

4- لماذا تعاون النملات مهم لبناء القرية؟

5- إذا كنتِ نملة مهندسة، ماذا ستضيفين لبيتك الجديد؟

هل أعجبتك هذه القصة؟ اقرأ المزيد من القصص التعليمية على حدّوتة.

قصص أطفال ذات عبرة.

ليلى وزيتونة الجدّة | سلسلة حكايات فلسطين

هل تحبّون القصص التي تتحدّث عن الأبطال؟ إن كانت إجابتكم بـ “نعم”، فهذه القصّة لكم. لكنها عن بطلة مميزة… في الواقع لا يرتدي كلّ الأبطال بزّات خارقة، ولا يطير كلّهم في السماء بأجنحة قويّة أو قدرات خارقة، بعض الأبطال، يقفون ثابتين في الأرض، يمدّون جذورًا قويّة لا يمكن استئصالها.

هذه حكاية ليلى، الطفلة الفلسطينية الصغيرة، وصديقتها الشجرة العجيبة التي علّمتها معنى الحب، والصمود، وأنّ للأرض أيضًا حكايات تُروى وتستحقُّ ان تُسمع!

زيتونة في القلب

في قرية جميلة من قرى فلسطين، كان بيتُ الصغيرة ليلى يستقرّ بين التلال الخضراء، ويطلّ على حديقة واسعة. تتوسّطها شجرة زيتون ضخمة، ضخمة جدًا!

جذعها سميك عريض، وأغصانها ممتدة كأذرع أمٍّ حنون تريد ضمّ كلّ من حولها. أوراقها خضراء لامعة، وعندما تداعبها الشمس، تبدو وكأنها قطع صغيرة من الفضة.

كانت ليلى تحب أن تجلس تحت الشجرة لساعات طويلة، تلعب بين جذورها، وتستمع إلى نسيم الهواء العليل يتخلّل أوراقها كهمسٍ جميل.

في يوم من الأيام، جلست الجدّة الحكيمة بجانب ليلى على صخرة قريبة تحت الشجرة، وسألتها:

“هل تعرفين لماذا نحب هذه الزيتونة كثيرًا يا ليلى؟”

هزّت ليلى رأسها وقالت:

“لأنها تعطينا الزيتون اللذيذ لنأكله!”

ابتسمت الجدة بحب وردّت:

“صحيح، لكن، هناك سبب آخر، يا ابنتي. هذه الزيتونة هي مثل قلب فلسطين. جذورها عميقة جدًا في الأرض، مثل جذورنا نحن. وكلّما حاول الأشرار أن يقتلعوها، تمسّكت أكثر وأكثر بالتراب. هي تقول بصوت عالٍ: ‘هذه أرضي ولن أرحل أبدًا’.”

وضعت ليلى كفّها الصغير على الجذع الخشن، وأحسّت بدفئه. همست:

“كأنّها مقاتل شجاع يقف ثابتًا يحرس الأرض ويحمي الوطن”

ضحكت الجدة وقالت: “نعم، إنها تراقب كلّ شيء. عاشت هنا مئات السنين. شاهدت أجدادنا وهم يزرعون، ويحصدون، ويغنون في أفراحهم، ويبكون في أيام الحزن.”

رفعت ليلى بصرها إلى الأعلى، ورأت عش عصافير صغيرًا بين الأغصان. قالت بدهشة:

“انظري يا جدتي، حتى الطيور اختارتها لتكون بيتًا آمنًا!”

أجابت الجدّة بحنان:

“لأن الزيتونة مثل الأم الكبيرة، تحتضن الجميع وتجعلهم يشعرون بالأمان. لهذا يا ليلى، عندما ترين شجرة زيتون، تذكري: إنها ليست شجرة عادية، إنها فلسطين واقفة أمامك.”

شعرت ليلى بالفخر، وأخذت تدور حول الشجرة بسرور وهي تغني بصوت خافت: “يا زيتونتنا، يا حكايتنا!”

الحصاد الأول

حلّ موسم قطف الزيتون، استيقظت القرية كلّها مع أولى بشائر الصبح. كان الهواء منعشًا تفوح منه رائحة التراب النديّ، وحقول الزيتون كانت تلمع بحبات خضراء وسوداء.

خرجت ليلى مع عائلتها، تحمل سلّة صغيرة من القش. وسمعت الجدّة تقول:

“اليوم ستصبحين جزءًا من فرحتنا الكبيرة. اليوم ستقطفين أولى زيتوناتك!”

اقتربت ليلى من الشجرة الكبيرة، ومدّت يدها برفق وقطفت حبة زيتون خضراء. شعرت ببرودتها وابتسمت. لكن عندما حاولت قطف المزيد، سقط بعضها على الأرض. ضحكت ليلى وقالت:

“إنه يهرب مني يا جدتي!”

ضحكت الجدّة وقالت: “إنه يختبر صبرك يا حبيبتي! الزيتون لا يعطي خيره إلّا لمن يحبّه ويهتمُّ به.”

من بعيد، بدأت ترتفع أصوات الأغاني الجميلة. رجال يهزّون الأغصان بعصي طويلة لإنزال الثمار، ونساءٌ يلتقطن الزيتون المتساقط ويجمعنه في سلال كبيرة، وأطفال يركضون بسعادة بين الأشجار. كان اليوم كله احتفالًا كبيرًا في الطبيعة.

سألت ليلى: “لماذا نجتمع كلنا يا جدتي عند قطف الزيتون؟”

أجابت الجدة وهي تساعدها في جمع حبات الزيتون:

“لأن الزيتون يحبُّ أن نعمل معًا. كما أنّ أغصانه تتشابكُ لتحمي بعضها البعض، نحن أيضًا نتكاتف ونتحد. هكذا نكون أقوياء أمام أي شخص يحاول أن يسرق أرضنا.”

نظرت ليلى حولها، ورأت السلال تزداد امتلاءً. أحسّت أن كل أهل القرية صاروا عائلة واحدة كبيرة، وكل شجرة زيتون تشهد على هذا الحب والاتحاد.

رفعت ليلى حبة زيتون صغيرة نحو الشمس وهمست:

“لن يأخذها أحد… هذه الثمرة من أرض فلسطين!”

معصرة الزيتون

مع غروب الشمس، امتلأت أزقة القرية بأصوات الخطوات. العائلات تحمل سلال الزيتون، تتجه جميعها نحو المعصرة القديمة، كأنّها رحلة مقدسة تتكرر كل عام.

كانت تلك المرّة الأولى التي تدخل فيها ليلى معصرة الزيتون، فدُهشت أيّما دهشة أمام المنظر أمامها. رأت حجارة دائرية ضخمة تدور ببطء، وتطحن حبات الزيتون بقوّة، فيما غمرت رائحة الزيتون الطازج المكان.

اقتربت ليلى من حوض حجري كبير، ورأت الزيت الذهبي يسيل في الأواني الفخارية. كان يلمع تحت المصابيح الصغيرة في منظر ساحر خلاّب:

“جدتي! إنه مثل الذهب السائل!”

ضحكت الجدة وربتت على كتفها:
“هو أغلى من الذهب يا ليلى. إنه زيت الزيتون… به نضيء بيوتنا في العتمة، ونعالج جراحنا إذا تألمنا، ونطهو طعامنا الذي يجمع العائلة حول مائدة واحدة.”

اقترب رجل مسنّ من أهل القرية، وعلى محيّاة ترتسم ابتسامة حنونة. ناول ليلى رغيفَ خبزٍ طازجًا مغموسًا في الزيت الجديد وقال:

“تذوّقي طعم الأرض!”

وضعت ليلى اللقمة في فمها، فأحسّت بدفء يملأ قلبها، هتفت قائلة:

“طعمه حارق وشهيّ جدًا!”

وضحك الجميع مسرورين عند كلماتها تلك.

فجأة، دوّى صوت انفجار من بعيد، بدا كطلقة نار أو انفجار قنبلة. ارتجفت ليلى خوفًا، والتصقت بجدّتها التي احتضنتها بقوّة. قالت الجدّة مطمئنة حفيدتها:

“لا تخافي يا حبيبتي. لطالما حاول المحتلّون إخافتنا وسرقة زيتوننا، لكنّنا أقوى منهم. ما دام الزيت ينساب من معاصرنا، فلن ينحمي تاريخنا، ولن تضعُف إرادتنا…”

وقال رجل آخر من أهل القرية محاولاً بحماس:

“باقون ما بقي الزعتر والزيتون!”

نظرت ليلى إلى الزيت المتلألئ من جديد، فرأت انعكاس وجهها فيه. عندها همست في سرّها:

“هذا تراثنا، ونورنا…وأنا سأحميه.”

الزيتونة رمز الصمود

وعاد أهل القرية مع نهاية النهاء إلى منازلهم، يحملون غلّتهم من الزيت الطازج الشهي. كانت ليلى مرهقة من العمل في الحقل مع جدّتها طوال النهار، فتناولت عشاءها، وذهبت إلى النوم مباشرة، وفي منامها، رأت حلمًا جميلاً.

وجدت نفسها في الحقل مرّة أخرى، وكان الوقت ليلاً، تزيّنت فيه السماء بمصابيح صغيرة من النجوم يتوسّطها البدر، مضيئًا مشرقًا، ويلقي بنوره على أوراق شجرة الزيتون فتلتمع كأنها الماس.

اقتربت ليلى من الشجرة العملاقة، وشعرت أن شيئًا غريبًا يحدث. فجأة، سمعت صوتًا حنونًا ودافئًا، مزيجًا من حفيف أوراق الشجر وتمايل الأغصان، وصوت آخر عذب قادم من بعيد:

“صغيرتي ليلى…”

نظرت ليلى حولها بدهشة. لم يكن هناك أحد! ثم أدركت أن الصوت يأتي من الشجرة نفسها!

همست الزيتونة:

“لا تخافي يا حبيبتي. أنا أراكِ وأعرف كم تحبينني. جذوري عميقة جدًا، تمتدّ تحت الأرض لتتذكّر كلّ من عاش هنا. أنا أقفُ هنا منذ زمن طويل، لا يهزّني ريح ولا تُخيفني عاصفة. أنا أقف لأجلكم، حتى أقول للعالم: هذه الأرض لا يمكن أن تضيع.

شعرت ليلى بالدفء يغمر قلبها وهي تستمع إلى حديث الشجرة. اقتربت أكثر وضعت يدها على الجذع وقالت:

“صديقتي الشجرة، وزيتونتي الغالية أنا أيضًا سأكون مثلكِ! قوية وثابتة!”

ثمّ واصلت:

“أعدكِ يا زيتونتنا! إذا حاول الأشرار أن يقتربوا، سأقف أمامهم ثابتة لا أرحل. سأكبر وأعود إليكِ، وسيأتي أولادي وأحفادي، وكلّهم سيجدونكِ واقفة هنا، تحكين لهم قصة الصمود.”

وسمعت ليلى صوت الشجرة يقول:

“وأنا هنا باقية، لن أخلف لك وعدي.”

ثمّ بدأ ضوء القمر يزداد قوّة، حتى ما عادت ليلى قادرة على إبقاء عينيها مفتوحتين، ثمّ وجدت نفسها فجأة في غرفتها من جديد.

استيقظت ليلى في سريرها مع أول خيوط الفجر. تذكّرت الحلم الساحر الذي رأته. فقفزت من سريرها على الفور، وركضت إلى النافذة، رأت شجرة الزيتون واقفة شامخة كما كانت دائمًا.

ابتسمت ليلى وقالت بصوت خافت مليء بالثقة والشجاعة:

“الزيتونة هي فلسطين… وفلسطين هي أنا، وها هو وعدي لم ينكسر!”

اقرأ المزيد من قصص الأطفال قبل النوم

قصص للأطفال: قصة وعبرة

Exit mobile version