سلسلة حكايات فلسطين | عصافير نابلس وحكاية الصابون

قصّة جديدة ومدينة جديدة نزورها معًا في سلسلة حكايات فلسطين. اليوم نزور مع صديقنا آدم مدينة نابلس ونتعلّم معًا كيفية صناعة الصابون الذي تشتهر به المدينة. انضمّوا إلينا في هذه المغامرة الممتعة والدافئة، ولنستكشف معًا مدينة نابلس العريقة.

صباح نابلس والعصافير

استيقظت مدينة نابلس مع أوّل خيطٍ من نور الصباح. أطلّ قرصُ الشمس ببطء من بين الجبال، وألقى بأشعته الذهبية على البيوت الحجرية القديمة، فتلألأت الأسطح والقباب الصغيرة كأنها تبتسم ليوم جديد.

في الأزقّة الضيّقة، انتشرت رائحة الخبز الطازج والزعتر. وفوق الحيّ، حلّقت عصافير صغيرة، تنتقل من سطحٍ إلى آخر، وتغنّي بصوتٍ رقيق، كأنها تقول: صباح الخير يا نابلس.

في أحد البيوت، فتح الصبيّ آدم نافذة غرفته. دخل الهواء البارد منعشًا، ومعه حمل رائحة غريبة لم يعهدها الصبي الصغير. توقّف آدم، وأخذ يشمّ بدهشة:

_ هذه ليست رائحة خبز… ولا قهوة… إنّها رائحة نظيفة، هادئة، تشبه زيت الزيتون النقي بعد المطر.

مدّ آدم رأسه خارج النافذة، كم يبحث عن مصدر هذه الرائحة المميزة، فرأى بعض العصافير تحلّق فوق مبنى حجري كبير في آخر الحارة.
كان يعرف هذا المبنى جيدًا؛ إنّه المَصْبنة (مصنعُ الصابون) التي يعمل فيها جدّه، حيث يُصنَع الصابون النابلسي المشهور.

وما فتئ الجدّ يطرق الباب، ويدخل الغرفة بخطوات هادئة، وابتسامة مشرقة ترتسم على وجهه:

– صباح الخير يا آدم. ما رأيك أن تزور المَصْبَنَة معي اليوم؟

أشرق وجه آدم فرحًا:

– نعم يا جدّي. أريد أن أعرف كيف يتحوّل زيت الزيتون إلى صابون.

ربّت الجدّ على كتفه برفق:

– حسنًا يا بنيّ، اليوم سوف ترى كل شيء بعينيك. فاذهب وتناول فطورك لنغادر بعدها، لقد أعدّت جدّتك فطائر الزعتر اللذيذة، وهي بانتظارك الآن.

_ يا سلاام! فطائر جدّتي الشهية التي لا تقاوم! أنا قادم!

ثمّ ألقى نظرة أخرى من النافذة. وسارع لارتداء ثيابه، قبل الفطور. كانت العصافير ما تزال تحلّق فوق الحارة، والمدينة تستعدّ ليومٍ جديد.
لم يكن يعلم آدم حينها أنّ هذا اليوم سيجعله ينظر إلى قطعة الصابون الصغيرة في بيته بطريقة مختلفة تمامًا…

داخل المصبنة القديمة

سار آدم مع جدّه في الأزقّة المرصوفة بالحجارة. كان الناس يفتحون محالّهم، والأطفال يسرعون إلى مدارسهم، ورائحة الصابون تزداد كلّما اقتربا.

دخلا من بابٍ خشبيّ عريض، فشعر آدم أنّه انتقل إلى عالمٍ آخر. سقف عالٍ، جدران حجرية سميكة، وضوء الشمس يدخل من نوافذ مرتفعة على شكل خطوط ذهبية.

في وسط القاعة، رأى حلّة نحاسية ضخمة، وتحتها نار هادئة. داخلها خليط سائل يتحرّك ببطء، وكان أحد العمّال يحرّكه بعصًا خشبية طويلة.

وقف آدم إلى جوار جدّه ينظر بدهشة. ثمّ التفت إلى الجدّ وهمس مستفسرًا:

_ ماهذه يا جدّي؟

_ هنا تبدأ حكاية الصابون. نخلط زيت الزيتون مع الماء ومادة تساعد على التنظيف، ثم نطبخ الخليط بصبرٍ طويل.

أجاب الجدّ موضّحًا. ثمّ أشار إلى برميل كبير في زاوية القاعة، وواصل القول:

– أوّلًا، نأتي بزيت الزيتون من بساتين الزيتون حول نابلس. إنّه زيت نظيف وعالي الجودة، من أشجار قديمة رعاها الفلّاحون طويلًا. ثم نخلط الماء بمادة خاصّة في برميل آخر. وبعد ذلك نسكب هذا الخليط مع زيت الزيتون في الحلّة الكبيرة.

أنصت باهتمام إلى جدّه وهو يشرح له عن كيفية صناعة الصابون، وراح يتأمّل حركة العامل.

قال الجدّ:

– نطبخ هذا الخليط ساعات طويلة، وأحيانًا أيّامًا، مع التحريك المستمرّ. ومع مرور الوقت، يتحوّل هذا الخليط كله إلى مادة جديدة هي الصابون.

نظر آدم حوله، فرأى عمّالًا آخرين يقومون بأعمال مختلفة، أحدهم يراقب النار تحت الحلّة، وآخر يتأكّد من كثافة الخليط، وآخر يجهّز أدوات لمرحلة قادمة.

كان المكان نشيطًا يعجّ بالحركة، لكنّها حركة منتظمة مدروسة، تمامًا كخلية نحل، وأحسّ آدم في أعماقه أنّ هذه المصبنة ليست مجرّد مصنع عادي، بل قلب نابلس الصغير الذي ينبض برائحة زيت الزيتون والصابون.

ثمّ رفع رأسه نحو إحدى النوافذ العالية، فبدت له قطعة من السماء الزرقاء الصافية، ووسعه رؤية أسراب من الطيور تحلّق في البعيد.

مربّعات الصابون وأبراج نابلس

بعد وقتٍ من الطبخ والتحريك، أعلن أحد العمّال أنّ خليط الصابون أصبح جاهزًا.
اقترب عمّال آخرون يحملون أوعية معدنية كبيرة، وبدؤوا يغرفون السائل من الحلّة، ويسكبونه على أرضية واسعة ملساء في وسط القاعة.

انتشر الصابون السائل على الأرضية، حتى صار يشبه بساطًا سميكًا لامعًا بلونٍ عاجيّ خفيف. ووقف آدم إلى جانب جدّه يتأمّل هذا البساط الغريب.

انتظر الجميع قليلًا حتى برد الصابون بعض الشيء، ثم جاء عامل يحمل أداة طويلة مستقيمة تشبه المسطرة. بدأ يمرّرها على سطح الصابون، يرسم خطوطًا متوازية بالطول، ثم خطوطًا أخرى بالعرض. وهكذا تحوّل البساط الكبير إلى شبكة من المربّعات المتساوية.

قال آدم وهو ينظر متعجبًا:

– تبدو مثل صفحة كبيرة من دفتر الرياضيات، لكنها مصنوعة من الصابون!

ضحك الجدّ:

– نعم، كلّ مربع هنا سيتحوّل إلى قطعة صابون منفصلة.

ثمّ جاء عامل آخر يحمل أداة معدنية صغيرة عليها نقش محفور، ثمّ انحنى على كل مربّع، يضغط بالختم في وسطه بلطف. فظهر على وجه كل قطعة ختم المصبنة، كعلامة تدلّ على أنّ هذا الصابون نابلسي أصلي.

سأل آدم بفضول:

– لماذا تضعون هذا الختم يا جدّي؟

– كي يتأكد الناس عندما يشترون الصابون أنّه مصنوع من زيت الزيتون الصافي، وبطريقة صحيحة. الختم يشبه توقيع الفنان على لوحته، يقول للناس: “صُنع هذا المنتج بأفضل الموادّ، وعلى الأصول!”

_ وماذا الآن؟

سأل آدم مجدّدًا، فقاده الجدّ إلى زاوية أخرى في المصنع، حيث كان العمّال يجمعون قطع صابون تمّ إعدادها سابقًا، كانت القطع تشبه مكعّبات صغيرة ذات لون هادئ، بين الأبيض والأصفر، رائحتها لطيفة وقويّة في الوقت نفسه.

حمل بعض العمّال هذه المكعّبات إلى زاوية خاصة من المصبنة، حيث كانت استقرّت صفوف عالية من الصابون. صفّوا القطع الجديدة فوق القديمة، على شكل أبراج طويلة، مع ترك فراغات صغيرة بين القطع ليمرّ الهواء بينها.

تقدّم آدم وهو ينظر إلى الأبراج بإعجاب:

– لماذا تتركون الصابون في هذه الأبراج كل هذا الوقت؟

– لأن الصابون يحتاج إلى أن يجفّ بهدوء، يا آدم.

يبقى هنا أشهرًا حتى يزداد صلابة وجودة، فلا يذوب بسرعة عندما نستخدمه في الماء.

تأمّل آدم أبراج الصابون النابلسي باهتمام، وأحسّ أنّ كلّ قطعة تروي حكاية عريقة عن شجر الزيتون، وجِدِّ الفلاحين، وجهود عاملي المصبنة.

هديّة من رائحة نابلس

مع نهاية النهار، هدأت حركة العمال في مصنع الصابون النابلسي، وراح العمّال يرتّبون أدواتهم ويجهّزونها لليوم التالي. اقترب الجدّ من أحد أبراج الصابون، وأخذ بعض القطع التي جفّت أخيرًا. لفّها في أوراق بيضاء خاصّة، ثم أعطى آدم قطعتين.

– هذه لك، وسنقدّم الأخرى هديّة لأحد الجيران.

فرح آدم بهذه الهدية الجميلة، وسار مع الجدّ معًا عائدين إلى المنزل. كانت الشمس تميل نحو الغروب، وتلوّنت السماء بدرجات البرتقالي والأحمر، فيما حلّقت العصافير عائدة إلى أعشاشها هي الأخرى فوق أسطح منازل نابلس العريقة.

وفي طريقهما، مرّ الجدّ وآدم من أمام بيتٍ صغير في الحارة. كانت هناك امرأة مسنّة تجلس عند الباب على كرسي خشبي، تراقب الأطفال وهم يلعبون بالحجارة والكرات في الزقاق. كانت تلك الحاجة أم حسّام. سلّم الجدّ عليها، ثم قال لآدم بلطف:

– تقدّم يا بنيّ، وقدّم لها قطعة الصابون.

تقدّم آدم بخطوات خجولة، ومدّ يده بالهدية:

– هذه قطعة صابون من المصبنة، أهداها لي جدّي، وأحببنا أن نهديكِ واحدة.

أخذت الحاجة أم حسّام القطعة بعناية، واستنشقت رائحتها الجميلة، فأشرق وجهها فرحًا بمجرّد أن لامست الرائحة أنفها:

– ما أطيب هذه الرائحة… تذكرني بأيامٍ الزمن الجميل، حين كانت نابلس تمتلئ بالمصابن، والبيوت تفوح برائحة الصابون والزيتون.

غمر الدفئ قلب آدم الصغير. لقد أدرك حينها أنّ بإمكان هديّة صغيرة مثل قطعة صابون أن تدخل السعادة إلى القلوب، وتعيد إليها ذكريات جميلة مليئة بالحنين إلى الماضي.

وعاد مع جدّه إلى البيت سعيدًا مسرورًا بما رآه وعاشه اليوم في المصبنة. في المساء، وضعت الأمّ قطعة الصابون الأخرى قرب حوض الغسل في الحمّام. وما هي إلاّ لحظات حتى انتشرت في البيت رائحته، كانت خفيفة، ولكنّها جميلة للغاية.

وقف آدم يغسل يديه، يراقب الرغوة البيضاء على أصابعه، ويتذكّر الحلّة الكبيرة، والبراميل، والمربّعات، والأبراج العالية. أدرك أنّ الصابون الذي يستخدمه كلّ يوم ليس شيئًا عاديًا، بل هو جزء من تاريخ مدينته نابلس.

اقترب من النافذة، ونظر إلى السماء.
رأى العصافير تطير في آخر ضوء للغروب، ثم تختفي شيئًا فشيئًا بين الأسطح. ابتسم آدم، وقال محدّثًا نفسه:

_ كلّما رأيتُ عصافير نابلس في السماء، سوف أتذكّر رائحة الصابون النابلسي، والمصبنة القديمة، ويدي التي حملت قطعة صغيرة تحمل حكاية كبيرة.

اقرأ المزيد من حكايات فلسطين على موقع حدّوتة.

رحلة سليم إلى القدس | سلسلة حكايات فلسطين

شوق في القلب إلى القدس

في طرف القرية الهادئة، كان يقف بيت الجدة مثل شاهدٍ على الزمن، مبنيًّا من حجارة بيضاء قديمة نحتتها الشمس والرياح عبر السنين، سقفه مغطّى ببلاطٍ أحمر لامع، يزداد بريقه كلما داعبه ضوء الغروب الذهبي. أمام البيت، تمتد حديقة صغيرة تحمل رائحة الحياة: شجرة ليمون متدلية الثمار، شجرة رمان حمراء كحبات الياقوت، وآنية فخّار قديمة زرعت فيها الجدة نعناعًا يفوح عطْره في الأرجاء كلما هبّت نسمة عليلة. بجانب الباب الخشبي العريض المزوّد بمقبض نحاسي لامع، علّقت الجدة قفّة من القشّ فيها خبز الطابون الساخن يبرد ببطء، ناشرًا رائحة تملأ المكان دفئًا وطمأنينة.

جلس سليم في الفناء الواسع، يراقب أرضيته المرصوفة بحجارة ملساء رتبتها الجدة بعناية لتبقى صلبة رغم مرور الأعوام. في الزاوية بئر ماء قديمة معطًّى بغطاء خشبي، تحيط به نباتات بريّة صارت جزءًا من ذاكرة المكان. كان كل ركن من البيت يحكي قصة، والجدة تحرص أن يبقى كل شيء كما تركه الأجداد، كأنها تخاف أن تنطفئ الحكاية إذا تغيّر شكل الحجر أو رائحة التراب.

نظرت الجدة إلى حفيدها، وقالت بصوتٍ حنون، كأنها تكرّر درسًا يعرفه قلبها قبل لسانها:
– “في القدس مسجد مبارك اسمه المسجد الأقصى، باركه الله وجعله مكانًا عزيزًا على قلوب المؤمنين.”

رفع سليم رأسه بسرعة، وعيناه تتألقان بفضولٍ لا ينطفئ، وقال بشغف:
– “يا جدّتي، هل سنذهب يومًا لرؤيته؟”

ابتسمت الجدة، وتجاعيد وجهها ازدادت إشراقًا، وقالت:
– “بإذن الله يا بني. القدس مثل جوهرة محفوظة في قلب الزمان، كل من يراها يزداد حبًّا لها. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تنعم فيه عيناك برؤيتها.”

ظلّ كلام الجدة يتردّد في أذن سليم كأنشودة. جلس صامتًا، لكن قلبه كان معلّقًا هناك، بالمسجد الأقصى. أخذ يتخيّل القباب اللامعة تعكس نور الشمس، والأسوار القديمة التي تحرس المدينة منذ قرون، والأبواب الضخمة التي تنفتح على طرقات ضيّقة مليئة بالحياة. تخيّل نفسه يمشي في تلك الأزقّة، يلمس حجارتها، يسمع دعاء المصلّين يتردّد بين المآذن، ويشم رائحة الخبز الطازج الذي تحبّه جدته.

وفي تلك الليلة، وهو يتهيّأ للنوم، رفع كفّيه الصغيرتين ودعا الله أن يحقق أمنيته، ثم غفا سريعًا. وفي حلمه، وجد نفسه في قلب القدس، يسير بخطوات واثقة، كأن المدينة فتحت له ذراعيها لتقول: “مرحبًا بك يا سليم، كنت في قلبي منذ زمن”

بداية الرحلة

في صباحٍ من الصباحات تحقق الحلم! استيقظ سليم على صوت والده وهو يقول:

– “استعد يا سليم، اليوم سنزور القدس.”

قفز سليم من فراشه ووجهه يضيء فرحًا. غسل وجهه بسرعة وارتدى أجمل ما في خزانته. حمل حقيبته الصغيرة، وفيها دفتر رسم وألوان، فقد قرّر أن يرسم كل ما يراه في رحلته.

جلس في السيارة إلى جانب والده، وبدأت الطريق تمتد أمامهما. على الجانبين صفوف طويلة من أشجار الزيتون، جذوعها قوية كأنها تحرس الأرض منذ مئات السنين، وقطرات الندى تلمع على أوراقها الخضراء، والعصافير تطير بين الأغصان وتغرد بمرح.

نظر سليم من النافذة بعينين لامعتين وقال:
– “كم هي مباركة أرضنا يا أبي!”
ابتسم الأب وأجاب:
– “نعم يا بني، هذه الأرض تشهد على قصص الأنبياء، وتحمل في ترابها حضارة عريقة.”

مرّا بقرى هادئة بيوتها من الحجر الأبيض، وأسقفها مقوّسة بلون الطين، وأمامها أحواض زهور ملونة. في الطرقات كان الأطفال يركضون بمرح، بعضهم يحمل كعكًا بالسمسم، وآخرون يلوّنون السماء بطائرات ورقية صغيرة.

فتح سليم دفتره وبدأ يرسم بسرعة: شجرة زيتون نضرة، بيتٌ قديمٌ بباب خشبي، بئر ماء بجانب حديقة صغيرة، وتلّة خضراء تمتد نحو الأفق. كان يشعر أن الطريق نفسه يحكي له قصة طويلة قبل أن يصل إلى القدس.

أغمض عينيه للحظة، وتخيّل أن الأشجار تلوّح له بيدها، وأن الحجارة تهمس له: “أهلاً بك يا سليم، ستزور اليوم مدينة لا تُنسى.”

أبواب القدس وأسواقها

بعد رحلة ممتعة، ظهرت أسوار القدس من بعيد، شامخة بلونها الحجري العتيق. اقتربت السيارة شيئًا فشيئًا حتى توقّفت عند أحد أبواب المدينة القديمة. كان الباب ضخمًا مقوّسًا مبنيًّا من حجارة داكنة صقلتْها أيدي الناس وملامح الزمن. مدّ سليم يده الصغيرة ولمس الجدار البارد، فشعر وكأنه يلمس صفحةً من كتابٍ قديمٍ يروي قصص الأبطال والتجّار والحجّاج الذين مرّوا من هنا.

دخل مع والده إلى البلدة القديمة، فانفتحت أمامهما أزقّة ضيقة مرصوفة بالحجارة. البيوت متلاصقة، شبابيكها صغيرة مزيّنة بأصص الريحان، ومن فوقها تدلّت أقواسٌ بيضاء تحمي الطريق من الشمس، وتزيد المكان سحرًا ودفئًا.

امتلأت أذنا سليم بأصوات الباعة:
– “خبز طازج بالسمسم!”
– “زيت وزيتون مبارك!”
– “بهارات من أرض فلسطين!”

وتداخلت الأصوات مع الروائح الزكية: رائحة الخبز الطازج، والزعتر المطحون، والقرفة التي تذكّره ببيت الجدة. وقف مدهوشًا أمام بائع يعرض أثوابًا مطرزة بخيوط حمراء وخضراء، فسأله والده:
– “هل ترى يا سليم؟ كل غرزة في هذه الثياب تحكي قصة من قرية أو مدينة.”

ابتسم سليم وهو يلمس القماش، ثم أسرع نحو محل آخر يبيع الفخار الأزرق المزين برسومات الطيور.

لكن وسط الزحام، لمح رجالًا بملامح عابسة، يرتدون ثياب العساكر، يتحركون بخشونة ويزاحمون الناس. شدّ سليم يد والده وقال بهمس:
– “أبي، أنا خائف…”
أجابه الأب بهدوء:
– “لا تخف من هؤلاء الجنود يا صغيري، ليسوا سوى لصوص يحاولون إزعاج الناس وسرقة أرضهم، لكن المدينة تعرف كيف تحافظ على تراثها وخيراتها، وهي أقوى من كل هذه المحاولات.”

شعر سليم بالراحة من كلام والده، وقرر أن يتابع تأمله، فتح دفتره ودوّن: “القدس مدينة تفوح رائحتها بالزعتر والخبز، وتلمع حجارتها كأنها تبتسم للزائرين.”

أول لقاء مع المسجد الأقصى

واصل سليم السير مع والده بين الأزقة حتى وصلا إلى ساحة واسعة يغمرها نور العصر. هناك، وقف سليم مبهورًا، وقد اتسعت عيناه دهشة، وأمامه استقرّ المسجد الأقصى بكلّ جماله.

كانت القبة الذهبية تتلألأ تحت صفحة السماء الزرقاء، في منظر بهيّ. وأحاطت بالمسجد أشجار نضرة تتمايل أوراقها بهدوء مع لنسيم العليل، فيما كان الحمام يرفرف في الأرجاء مطمئنًا، وكأنه يعرف أن هذه الأرض مباركة. ثمّ ارتفعت في الارجاء أصوات آذان العصر، فزادت المكان سحرًا وجماباً

اقتربا من المتوضأ، فغسلا وجهيهما ويديهما بماءٍ باردٍ رقراق، أحسّ سليم معه بصفاءٍ عجيبٍ يغمر قلبه. دخل مع والده المسجد الأقصى، فشعر كأنّه يدخل قلب التاريخ نفسه. كانت الأعمدة الرخامية البيضاء ترتفع عالية في السماء، مزخرفة بنقوشٍ هندسيةٍ دقيقةٍ تتشابك كأنّها نجمات صغيرة من الضوء. الزخارف الملوّنة تملأ الجدران، والخشب المنقوش في السقف يروي حكاياتٍ عن أيدٍ بارعةٍ صلّت وهي تبنيه.

وقف سليم بجانب والده في الصف، وصلّيا العصر مع جماعة المصلّين. كان صوت الإمام يملأ القاعة بخشوعٍ مهيب، والنسيم القادم من النوافذ العالية يحمل معه رائحة الطهر والسكينة. شعر سليم أن صلاته هنا تختلف عن أي صلاةٍ صلاّها من قبل… كأنّ السماء أقرب، وكأنّ الدعاء يصعد دون عناء.

بعد الصلاة، جلسا تحت شجرة زيتون معمّرة، جذعها العريض يشبه ذراعًا عظيمة تحضن المكان. أخرج سليم دفتره بسرعة، وبدأ يرسم القبة بخطوطٍ مرتعشة من شدّة الفرح. كان قلبه يخفق بقوة، وكأنه يكتب بيده ذكرى لا تُمحى.

اقترب والده منه وقال بلطف:
– “المسجد الأقصى أمانة غالية يا سليم. من يحبّه، يحميه بالدعاء، وبالعمل الصالح، وبالذكر الطيب.”

رفع سليم رأسه بحماس وقال بثقة:
– “سأحمله في قلبي دائمًا يا أبي… ولن أنساه أبدًا.”

حلّقت مجموعةٌ من الطيور البيضاء فوق الساحة، فرفع سليم بصره نحوها، يراقبها وهي تدور في سماء القدس بطمأنينة. شعر في تلك اللحظة أن حتى الطيور تصلي بطريقتها، وأن زيارته الأولى للأقصى لم تكن مجرد رحلة، بل عهدًا بينه وبين هذا المكان المبارك، سيحمله في قلبه ما عاش.

حكاياتٌ من الزمن

بعد أن فرغ سليم ووالده من جولتهما في الساحة، اتجها إلى السوق القريب من المسجد الأقصى ليستريحا. كان السوق نابضًا بالحياة: دكاكين صغيرة متلاصقة، بسطات مليئة بالفاكهة والبهارات، وباعة ينادون بمرح يجذب المارة. رائحة القهوة الطازجة امتزجت مع رائحة الخبز والكعك بالسمسم، فحاول أنف سليم التقاطها كلها بحماس!

جلس الأب وابنه عند دكّان يبيع الكتب والخرائط القديمة. كان صاحبه شيخًا مسنًّا، لحيته بيضاء وابتسامته هادئة، وعيناه تلمعان كأنهما تعرفان أسرار المكان. نظر إلى سليم وقال بلطف:
– “هذه أول زيارة لك يا صغيري، أليس كذلك؟”

أجاب سليم وهو يهز رأسه بحماس:
– “نعم يا عم، وقد شعرت أنني أعرف المدينة منذ زمن!”

ضحك الشيخ وقال:
– “هذا لأن القدس تسكن في قلب كل مؤمن قبل أن يراها. مرّ من هنا العلماء والرحّالة والتجّار، كل واحد منهم ترك أثرًا في حجارتها وأسواقها. إنها مدينة لا تنسى زائريها.”

أشار الشيخ إلى رفوف الكتب والبطاقات، ثم تابع:
– “كل حجر هنا يحكي قصة، وكل زقاق فيه ذكرى. حتى وإن جاء المحتلّون ليزعجوا الناس ويسرقوهم، تبقى القدس مثل شجرة زيتون، عميقة الجذور، لا تسقط أبدًا.”

جلس سليم مأخوذًا بكلامه، ثم فتح دفتره وكتب: “القدس مدينة تحفظ الحكايات، مثلما تحفظ الجدة قصص الأجداد.”

مرّ أمامهم طفل يحمل عربة صغيرة مليئة بالكعك الساخن، يوزعها مبتسمًا على الزبائن. ضحك الشيخ وقال:
– “حتى هذا الكعك له قصة هنا، فالقدس تحفظ طعمها ورائحتها كما تحفظ أبوابها وأسوارها.”

شعر سليم أن السوق ليس مكانًا للبيع والشراء فقط، بل كتابًا مفتوحًا للحكايات، كل شخص فيه سطر، وكل زائر كلمة جديدة. نظر إلى والده وقال:
– “أريد أن أحفظ هذه القصص كلها، لأرويها لأصدقائي.”
ربّت والده على كتفه بفخر، وقال:
– “وهكذا تصبح أنت جزءًا من الحكاية.”

وعدٌ لا يُنسى

مع اقتراب الغروب، عاد سليم مع والده إلى الساحة الواسعة أمام المسجد الأقصى. كانت السماء قد بدأت تتلوّن بخطوط حمراء وبرتقالية، والقبة الذهبية تعكس ضوء الشمس الأخير فتزداد جمالًا وبهاءً. جلسا قليلًا على طرف الدرج الحجري، والنسيم يحرّك أوراق الزيتون في هدوء.

وقف سليم يتأمل المشهد طويلًا، ثم التفت إلى والده وقال بصوتٍ مملوء بالعزم:
– “أبي، أعدك أنني سأعود إلى القدس مرات كثيرة. أريد أن أحفظ كل زاوية فيها، وأرسم كل شجرة وكل حجر.”

ابتسم والده ووضع يده على كتفه وقال:
– “ومن يحب القدس حقًّا، يحملها في قلبه حتى لو ابتعد عنها. وكلما حدثتَ أحدًا عن جمالها، تكون قد عدت إليها من جديد.”

أخرج سليم ورقة ملوّنة من حقيبته، ورسم عليها بسرعة قبة المسجد الأقصى، ثم كتب تحتها: “القدس في قلبي إلى الأبد.” رفع الورقة عاليًا وكأنه يرسل وعده مع نور الغروب.

في طريق العودة بالسيارة، ظل سليم ينظر من النافذة. رأى الأطفال يلعبون أمام بيوتهم، والباعة يغلقون دكاكينهم، والطيور تعود إلى أعشاشها. لكن قلبه ظل معلّقًا هناك، في الساحة الكبيرة حيث القبة المضيئة.

وعندما وصل إلى البيت، كانت جدته بانتظاره عند الباب. ركض إليها وهو يهتف:
– “يا جدتي! رأيت المسجد الأقصى بعيني… كان أجمل من كل ما حكيته لي!”

دمعت عيناها وهي تضمّه وتقول:
– “بارك الله فيك يا بني. لقد عدت ومعك نور من القدس.”

جلس سليم بجانبها يصف لها تفاصيل رحلته: الأزقة الضيقة، الأسواق المليئة بالبهارات، الأطفال الذين كانوا يلعبون، والحمام الذي يرفرف في ساحات المسجد. عرض عليها دفتره المليء بالرسوم، فابتسمت وقالت:
– “الآن صرتَ أنت من يحكي الحكاية، وسترويها يومًا لأطفالك كما رويتها لك.”

وفي تلك الليلة، نام سليم وهو يشعر أن قلبه كبر قليلًا. كان يعرف أن رحلته لم تنتهِ، بل بدأت، وأن الوعد الذي كتبه سيبقى معه دائمًا: أن القدس بيت له، وأن الأقصى سيظل في قلبه مهما طال الزمن.

هل أعجبتك هذه القصّة؟ اقرأ المزيد من قصص فلسطين للأطفال الآن على موقع حدّوتة

ليلى وزيتونة الجدّة | سلسلة حكايات فلسطين

هل تحبّون القصص التي تتحدّث عن الأبطال؟ إن كانت إجابتكم بـ “نعم”، فهذه القصّة لكم. لكنها عن بطلة مميزة… في الواقع لا يرتدي كلّ الأبطال بزّات خارقة، ولا يطير كلّهم في السماء بأجنحة قويّة أو قدرات خارقة، بعض الأبطال، يقفون ثابتين في الأرض، يمدّون جذورًا قويّة لا يمكن استئصالها.

هذه حكاية ليلى، الطفلة الفلسطينية الصغيرة، وصديقتها الشجرة العجيبة التي علّمتها معنى الحب، والصمود، وأنّ للأرض أيضًا حكايات تُروى وتستحقُّ ان تُسمع!

زيتونة في القلب

في قرية جميلة من قرى فلسطين، كان بيتُ الصغيرة ليلى يستقرّ بين التلال الخضراء، ويطلّ على حديقة واسعة. تتوسّطها شجرة زيتون ضخمة، ضخمة جدًا!

جذعها سميك عريض، وأغصانها ممتدة كأذرع أمٍّ حنون تريد ضمّ كلّ من حولها. أوراقها خضراء لامعة، وعندما تداعبها الشمس، تبدو وكأنها قطع صغيرة من الفضة.

كانت ليلى تحب أن تجلس تحت الشجرة لساعات طويلة، تلعب بين جذورها، وتستمع إلى نسيم الهواء العليل يتخلّل أوراقها كهمسٍ جميل.

في يوم من الأيام، جلست الجدّة الحكيمة بجانب ليلى على صخرة قريبة تحت الشجرة، وسألتها:

“هل تعرفين لماذا نحب هذه الزيتونة كثيرًا يا ليلى؟”

هزّت ليلى رأسها وقالت:

“لأنها تعطينا الزيتون اللذيذ لنأكله!”

ابتسمت الجدة بحب وردّت:

“صحيح، لكن، هناك سبب آخر، يا ابنتي. هذه الزيتونة هي مثل قلب فلسطين. جذورها عميقة جدًا في الأرض، مثل جذورنا نحن. وكلّما حاول الأشرار أن يقتلعوها، تمسّكت أكثر وأكثر بالتراب. هي تقول بصوت عالٍ: ‘هذه أرضي ولن أرحل أبدًا’.”

وضعت ليلى كفّها الصغير على الجذع الخشن، وأحسّت بدفئه. همست:

“كأنّها مقاتل شجاع يقف ثابتًا يحرس الأرض ويحمي الوطن”

ضحكت الجدة وقالت: “نعم، إنها تراقب كلّ شيء. عاشت هنا مئات السنين. شاهدت أجدادنا وهم يزرعون، ويحصدون، ويغنون في أفراحهم، ويبكون في أيام الحزن.”

رفعت ليلى بصرها إلى الأعلى، ورأت عش عصافير صغيرًا بين الأغصان. قالت بدهشة:

“انظري يا جدتي، حتى الطيور اختارتها لتكون بيتًا آمنًا!”

أجابت الجدّة بحنان:

“لأن الزيتونة مثل الأم الكبيرة، تحتضن الجميع وتجعلهم يشعرون بالأمان. لهذا يا ليلى، عندما ترين شجرة زيتون، تذكري: إنها ليست شجرة عادية، إنها فلسطين واقفة أمامك.”

شعرت ليلى بالفخر، وأخذت تدور حول الشجرة بسرور وهي تغني بصوت خافت: “يا زيتونتنا، يا حكايتنا!”

الحصاد الأول

حلّ موسم قطف الزيتون، استيقظت القرية كلّها مع أولى بشائر الصبح. كان الهواء منعشًا تفوح منه رائحة التراب النديّ، وحقول الزيتون كانت تلمع بحبات خضراء وسوداء.

خرجت ليلى مع عائلتها، تحمل سلّة صغيرة من القش. وسمعت الجدّة تقول:

“اليوم ستصبحين جزءًا من فرحتنا الكبيرة. اليوم ستقطفين أولى زيتوناتك!”

اقتربت ليلى من الشجرة الكبيرة، ومدّت يدها برفق وقطفت حبة زيتون خضراء. شعرت ببرودتها وابتسمت. لكن عندما حاولت قطف المزيد، سقط بعضها على الأرض. ضحكت ليلى وقالت:

“إنه يهرب مني يا جدتي!”

ضحكت الجدّة وقالت: “إنه يختبر صبرك يا حبيبتي! الزيتون لا يعطي خيره إلّا لمن يحبّه ويهتمُّ به.”

من بعيد، بدأت ترتفع أصوات الأغاني الجميلة. رجال يهزّون الأغصان بعصي طويلة لإنزال الثمار، ونساءٌ يلتقطن الزيتون المتساقط ويجمعنه في سلال كبيرة، وأطفال يركضون بسعادة بين الأشجار. كان اليوم كله احتفالًا كبيرًا في الطبيعة.

سألت ليلى: “لماذا نجتمع كلنا يا جدتي عند قطف الزيتون؟”

أجابت الجدة وهي تساعدها في جمع حبات الزيتون:

“لأن الزيتون يحبُّ أن نعمل معًا. كما أنّ أغصانه تتشابكُ لتحمي بعضها البعض، نحن أيضًا نتكاتف ونتحد. هكذا نكون أقوياء أمام أي شخص يحاول أن يسرق أرضنا.”

نظرت ليلى حولها، ورأت السلال تزداد امتلاءً. أحسّت أن كل أهل القرية صاروا عائلة واحدة كبيرة، وكل شجرة زيتون تشهد على هذا الحب والاتحاد.

رفعت ليلى حبة زيتون صغيرة نحو الشمس وهمست:

“لن يأخذها أحد… هذه الثمرة من أرض فلسطين!”

معصرة الزيتون

مع غروب الشمس، امتلأت أزقة القرية بأصوات الخطوات. العائلات تحمل سلال الزيتون، تتجه جميعها نحو المعصرة القديمة، كأنّها رحلة مقدسة تتكرر كل عام.

كانت تلك المرّة الأولى التي تدخل فيها ليلى معصرة الزيتون، فدُهشت أيّما دهشة أمام المنظر أمامها. رأت حجارة دائرية ضخمة تدور ببطء، وتطحن حبات الزيتون بقوّة، فيما غمرت رائحة الزيتون الطازج المكان.

اقتربت ليلى من حوض حجري كبير، ورأت الزيت الذهبي يسيل في الأواني الفخارية. كان يلمع تحت المصابيح الصغيرة في منظر ساحر خلاّب:

“جدتي! إنه مثل الذهب السائل!”

ضحكت الجدة وربتت على كتفها:
“هو أغلى من الذهب يا ليلى. إنه زيت الزيتون… به نضيء بيوتنا في العتمة، ونعالج جراحنا إذا تألمنا، ونطهو طعامنا الذي يجمع العائلة حول مائدة واحدة.”

اقترب رجل مسنّ من أهل القرية، وعلى محيّاة ترتسم ابتسامة حنونة. ناول ليلى رغيفَ خبزٍ طازجًا مغموسًا في الزيت الجديد وقال:

“تذوّقي طعم الأرض!”

وضعت ليلى اللقمة في فمها، فأحسّت بدفء يملأ قلبها، هتفت قائلة:

“طعمه حارق وشهيّ جدًا!”

وضحك الجميع مسرورين عند كلماتها تلك.

فجأة، دوّى صوت انفجار من بعيد، بدا كطلقة نار أو انفجار قنبلة. ارتجفت ليلى خوفًا، والتصقت بجدّتها التي احتضنتها بقوّة. قالت الجدّة مطمئنة حفيدتها:

“لا تخافي يا حبيبتي. لطالما حاول المحتلّون إخافتنا وسرقة زيتوننا، لكنّنا أقوى منهم. ما دام الزيت ينساب من معاصرنا، فلن ينحمي تاريخنا، ولن تضعُف إرادتنا…”

وقال رجل آخر من أهل القرية محاولاً بحماس:

“باقون ما بقي الزعتر والزيتون!”

نظرت ليلى إلى الزيت المتلألئ من جديد، فرأت انعكاس وجهها فيه. عندها همست في سرّها:

“هذا تراثنا، ونورنا…وأنا سأحميه.”

الزيتونة رمز الصمود

وعاد أهل القرية مع نهاية النهاء إلى منازلهم، يحملون غلّتهم من الزيت الطازج الشهي. كانت ليلى مرهقة من العمل في الحقل مع جدّتها طوال النهار، فتناولت عشاءها، وذهبت إلى النوم مباشرة، وفي منامها، رأت حلمًا جميلاً.

وجدت نفسها في الحقل مرّة أخرى، وكان الوقت ليلاً، تزيّنت فيه السماء بمصابيح صغيرة من النجوم يتوسّطها البدر، مضيئًا مشرقًا، ويلقي بنوره على أوراق شجرة الزيتون فتلتمع كأنها الماس.

اقتربت ليلى من الشجرة العملاقة، وشعرت أن شيئًا غريبًا يحدث. فجأة، سمعت صوتًا حنونًا ودافئًا، مزيجًا من حفيف أوراق الشجر وتمايل الأغصان، وصوت آخر عذب قادم من بعيد:

“صغيرتي ليلى…”

نظرت ليلى حولها بدهشة. لم يكن هناك أحد! ثم أدركت أن الصوت يأتي من الشجرة نفسها!

همست الزيتونة:

“لا تخافي يا حبيبتي. أنا أراكِ وأعرف كم تحبينني. جذوري عميقة جدًا، تمتدّ تحت الأرض لتتذكّر كلّ من عاش هنا. أنا أقفُ هنا منذ زمن طويل، لا يهزّني ريح ولا تُخيفني عاصفة. أنا أقف لأجلكم، حتى أقول للعالم: هذه الأرض لا يمكن أن تضيع.

شعرت ليلى بالدفء يغمر قلبها وهي تستمع إلى حديث الشجرة. اقتربت أكثر وضعت يدها على الجذع وقالت:

“صديقتي الشجرة، وزيتونتي الغالية أنا أيضًا سأكون مثلكِ! قوية وثابتة!”

ثمّ واصلت:

“أعدكِ يا زيتونتنا! إذا حاول الأشرار أن يقتربوا، سأقف أمامهم ثابتة لا أرحل. سأكبر وأعود إليكِ، وسيأتي أولادي وأحفادي، وكلّهم سيجدونكِ واقفة هنا، تحكين لهم قصة الصمود.”

وسمعت ليلى صوت الشجرة يقول:

“وأنا هنا باقية، لن أخلف لك وعدي.”

ثمّ بدأ ضوء القمر يزداد قوّة، حتى ما عادت ليلى قادرة على إبقاء عينيها مفتوحتين، ثمّ وجدت نفسها فجأة في غرفتها من جديد.

استيقظت ليلى في سريرها مع أول خيوط الفجر. تذكّرت الحلم الساحر الذي رأته. فقفزت من سريرها على الفور، وركضت إلى النافذة، رأت شجرة الزيتون واقفة شامخة كما كانت دائمًا.

ابتسمت ليلى وقالت بصوت خافت مليء بالثقة والشجاعة:

“الزيتونة هي فلسطين… وفلسطين هي أنا، وها هو وعدي لم ينكسر!”

اقرأ المزيد من قصص الأطفال قبل النوم

قصص للأطفال: قصة وعبرة

طيور عكا لا تغادر البحر | سلسلة حكايات فلسطين

في أحد الصباحات الصافية، جلسَت ليان على صخرةٍ قريبة من ميناء عكّا بعد طريق سفر متعب، تُراقب صفحة المياه المياه تتلألأ تحت أشعّة الشمس، وتستمتع بالأمواج الخفيفة تتكسّر على رصيف الميناء. كانت النوارس تحلّق قريبة من سطح الماء، ثم تطلق جناحيها، وترتفع مبتعدة مصدرة صياحًا حادًّا يبدو كصرخات فرحة مستمتعة بالحريّة.

“أبي! لماذا تحلّق النوارس دومًا بالقرب من البحر؟”

ابتسم الأب وقال: “ربّما لأن الشاطئ هو بيتها، ومسكنها. وعلى أيّة حال، فطيور عكّا لا تغادر البحر…إنها باقية هنا، متمسّكة بمنازلها.”

“مضى وقت طويل منذ أن أتينا إلى عكّا، إنها مدينة جميلة للغاية، يا أبي…”

“بالطبع يا صغيرتي، عكّا مدينة لا تُشبِه أي مدينة، فهي بوابة فلسطين على البحر، تحكي منذ مئات السنين قصص الشجاعة والصمود.”

وبينما هما يتأملان البحر، مرّ رجل يحمل شبكة على كتفه، يخطو بخطواتٍ واثقة وكأنه يعرف كلّ حجر في الميناء. نظر إليه الأب مليًّا كما لو أنّه يحاول تذكّر ملامحه، ثمّ ناداه فجأة حينما تعرّف عليه “أبو زيد؟» توقّف الرجل والتفت نحو مصدر الصوت، مستغربًا:

“نعم، أنا هو” أجاب.

صافحه الأب بحرارة وقال معرّفًا عن نفسه: “أنا ابن الحاج يوسف… وهذه ابنتي ليان.”

أشرق وجه أبي زيد وقال: “يا سلام! مرّت سنوات طويلة، وها أنتم تعودون إلى عكّا، أهلا بجيراننا الطيبين.”

رفعت ليان رأسها نحوه بفضول، فسألها بلطف: “تحبّين البحر يا صغيرة؟”

أجابت بخجل: “نعم كثيرًا، وأحبّ بحر عكّا أكثر من كلّ البحار في العالم.”

ضحك أبو زيد وقال: “تشتهر مدينة عكّا بجمال ساحلها، ويحكي موج البحر للزائرين قصصًا شيّقة من غابر الزمان عن المدينة وأهلها، كلّ ما عليكِ فعله، هو السير على الشاطئ بهدوء والإنصات!”

“حقاً؟! أريد أن أعرف كلّ قصص وحكايا المدينة!” هتفت ليان وعيناها تلمعان فضولاً وحماسة.

وضحك كلّ من الأب وأبا زيد، ثمّ أردف هذا الأخير قائلا:

“أنا أتجوّل كلّ يوم بين الميناء والسوق والسور بحكم عملي، فما رأيكِ أن ترافقيني يوم الغد، لأقصّ عليكِ حكايات المدينة؟”

تحمّست ليان للفكرة، والتفتت لأبيها ترجوه الموافقة على أن ترافق هي العمّ أبا زيد في جولته اليومية:

“لا مانع لديّ، ولكن بشرط واحد، أن تُحسني التصرّف، ولا تشغلي العمّ عن أعماله وأشغاله!”

“أعدك بذلك يا أبي!” هتفت ليان مجدّدًا بسعادة.

هزّ أبو زيد رأسه موافقًا: “غدًا نبدأ… فكل زاوية هنا تحمل حكاية، وعكّا تعرف كيف ترويها لمن يصغي.”

سوق عكّا… رائحة الأرض والبحر

في ظهيرة اليوم التالي، وبينما كانت الشمس تنسج خيوطها الذهبية على جدران المدينة العتيقة، اصطحب العمّ أبو زيد ليان إلى السوق القريب من الميناء. كانت أزقّة السوق بمثابة ممرات للزمن، ضيّقة لكنّها تعجّ بالحياة والنور، يتسلل الضوء إليها خجولاً من بين الأبنية المعمّرة، تلك الشواهد الصامتة المشيّدة من حجارة تحمل بين طيّاتها عبق القرون الغابرة. شعرت ليان وكأنّ كلّ خطوة تخطوها على تلك الأرض هي مصافحة للأجداد الذين زرعوا الحياة هنا وعمّروا المدينة.

سارت ليان بين دكاكين البهارات التي تفوح منها رائحة الأرض: الزعتر الممزوج بالذاكرة، والسماق الحامض كالحنين، والكمّون الذي يدفئ القلب. لم تكن مجرّد روائح، بل كانت هويّة الأرض التي تُنادي؛ شعرت أن كلّ حبّة زعتر تشبه ورقة من كتاب فلسطين المفتوح، فصارت تتنشّق الروائح بعمق وشغف، وكأنها ترتوي من بئر عذب.

ابتسم أبو زيد بحبّ وأشار إلى بوابة حجرية عالية تلامس السماء:

“هذا هو خان العمدان، يا ليان. هنا كانت ترسو أحلام التجّار القادمين بالسفن، تبادلوا البضائع والأسرار، ورووا قصص السفر. وما زال المكان شاهدًا حيًّا على زمنٍ لم يرحل، بل تحوّل إلى ذكرى متمسّكة بالبقاء.”

مرّا بجانب نحّاسٍ يدقّ أوانيه النحاسية بصبر وحكمة، وخبّازٍ يخرج الفرن فطائر ساخنة تفوح منها رائحة الزعتر الشهية، وصبيّ يبيع أصدافًا لامعة جمعها من الشاطئ، وكأنها حبات لؤلؤ مكنونة.

في زاوية من السوق، جلس حكواتيّ ذو لحية بيضاء اشتعل فيها الشيب، يحمل دفترًا قديمًا ممزّق الأطراف يقول:

“من يريد حكاية من حكايات فلسطين التي لا تنتهي؟”

رفعت ليان يدها الصغيرة بسرعة وحماس. ابتسم الحكواتيّ وقال بصوت عميق يهزّ الروح:

“عكّا يا صغيرتي مدينة عريقة، والسوق هو قلبها النابض وشريانها الذي لا يجفّ. فيه يجتمع الناس، يتبادلون الرزق والضحكات، وفيه يثبتون أن عكّا، رغم كلّ ما مرّت به من عواصف وقهر، ما زالت عامرة بأهلها، فلسطينيةً بروحها وتراثها، لا يكسرها غياب، ولا ينهيها احتلال.”

نظرت ليان حولها بدهشة الطفل الذي يرى العالم للمرّة الأولى، ورأت كيف يلتقي في السوق عبق البحر بعبق الأرض، وكيف تحوّلت الدكاكين إلى صفحات من ذاكرة حيّة، تحفظ قصص فلسطين كما تحفظ الأمّ أطفالها، تحتضنهم ولا تفرّط فيهم أبدًا.

السور الذي لا ينحني

ما إن بدأت الشمس تميل نحو الغروب، حتّى قاد العمّ أبو زيد ليان ووالدها نحو سورضخم جدًا يحيط بالمدينة: إنه سور عكّا العظيم! كان السور يلتف حول عكّا مثل ذراعَي بطل عملاق يحتضنها ويحميها من أي خطر. مدّت ليان يدها ولمست الحجارة الكبيرة والقديمة، شعرت بدفء غريب، وكأنّ هذه الحجارة خزّنت كلّ حرارة الشمس التي أشرقت عليها منذ مئات السنين إلى يومنا هذا. همست لنفسها:

“نحن هنا منذ القدم…وسنبقى إلى الأبد…لن نرحل ولن نغادر أبدًا.

قال العمّ أبو زيد بحماس: “

هذا السور يا ليان ليس مجرد حجارة ضخمة! إنه صديق عكّا القديم، وشاهد على كلّ شيء حدث فيها. حاول الكثيرون أن يهدموه، لكنّه ظلّ واقفًا كالجبل، يخبر الجميع أن عكّا مدينة قوية جدًا ولا يمكن أن تنحني!”

ساروا على طول السور بالقرب من البحر. كانت الأمواج تتلاحق بسرعة ثم تضرب السور بقوة، ثم تعود بهدوء، كما لو أنّها تصافح السور وتحيّيه على شجاعته. سألت ليان بفضول:

“من الذي بنى هذا السور يا عمّ؟”

أجابها:

“بناه أناس كثيرون عبر العصور، وكلّ حجر وُضع هنا كان بمثابة وعد بحماية فلسطين. ولهذا السبب، لا يُشبه سور عكّا أي سور آخر في العالم، إنه حامي المدينة الذي يقف شامخًا بقوة وثبات!”

وصلوا إلى فتحة صغيرة في السور تُطلّ على الميناء. أغمضت ليان عينيها وبدأت تتخيّل: رأت بحّارة شجعانًا يعودون من السفر، يرفعون رايات ملوّنة ويغنّون أغاني الفرح! في تلك اللحظة، قال العمّ أبو زيد وهو ينظر إلى البحر: “حتى النوارس والطيور تعرف هذا السور! إنها تعود كلّ مساء إليه وتهمس له: “هذه مدينتنا، عكّا… مكاننا الجميل الذي لا يغادر القلب!”

المسجد الأخضر… قلب المدينة الهادئ

بالقرب من الميناء، وقف بناء عظيم وجميل جدًا: إنه مسجد الجزار! كانت مآذنه ترتفع نحو السماء وقبّته الخضراء تلمع تحت أشعة الشمس. دخلت ليان مع والدها والعمّ أبا زيد إلى ساحة المسجد الهادئة.

ما أجمل هذا المشهد! كانت حمامات بيضاء جميلة تطير فوق الأقواس الحجرية العالية، والبلاط في أرضية الساحة كان نظيفًا لامعًا.

همس والد ليان بهدوء: “هذا المكان يا ليان، يصلّي فيه الناس منذ مئات السنين. وهنا كانوا يدعون الله أن يحمي البحّارة والمسافرين ويعيدهم سالمين. المسجد ليس فقط مكانًا للعبادة، بل هو بيت كبير يجمع قلوب أهل فلسطين، يحفظ هويتهم وطيبتهم مثلما يحفظ البحر ملوحته دائمًا.”

سألت ليان بفضول الأطفالِ: “هل للمسجد حكايات مثل حكايات السور القوي؟”

ابتسم العمّ الطيب بحبّ قائلاً: “بالتأكيد يا صغيرتي! لكلّ قوس في هذا المسجد حكاية، ولكلّ نافذة قصّة ولكلّ مئذنة رواية، وجميعها تشهد أنّ هذه الأرض المباركة أرضنا.”

جلست ليان تحت ظلّ شجرة كبيرة في ساحة المسجد. أغمضت عينيها وتخيّلت البحّارة سدخلون الجامع بعد أن يعودوا من رحلة طويلة في البحر، يصلّون ويحمدون الله على نعمه الوافرة، ثم ينتشرون في المدينة يملأ السلام يملأ أرواحهم. قالت ليان بصوت حالم:

“المسجد مثل حضن دافئ وكبير يحتضن كلّ الناس.”

ردّ العمّ أبو زيد وهو يبتسم لها: “صحيح يا ليان، حضن الإيمان والهوية! ومن يحتمي بهذين الأمرين، يبقى قويًا جدًا ولا تهزّه أي عواصف أو صعاب في الحياة.”

النوارس وحكاية العودة

عندما حلّ المساء الجميل، وجلسوا عند طرف الميناء الهادئ. اشتعل ضوء المنارة البعيدة، وبدت وكأنها عين عملاقة ساهرة تحرس الطريق البحري وتدلّ السفن. هدأت النوارس البيضاء الصغيرة فوق الأعمدة الخشبية، وصار صوت البحر أعمق وأكثر هدوءًا.

قال أبو زيد بصوت حنون: “الليلة يا ليان، سيخبرنا البحر سرّ طيور عكّا العجيبة.”

أغمضت ليان عينيها بتركيز، وبدأت تُصغي وتتخيّل. تخيّلت بحّارًا قديمًا جدًا، ذو وجه سمح، ينبثق من بين الأمواج ويرفع صوته الوقور قائلًا:

«يا أهل عكّا، يا أحبّاء البحر…هذه النوارس ليست طيورًا عادية، وإنمّا هي صديقات عكّا الوفيّات! في كلّ صباح، تحلّق فوق البحر، تصطاد الأسماك، وتلاعب الأمواج. لكن عندما يأتي المساء، تعود جميعها لتقف على سور عكّا ومينائها. لماذا؟ لأنّها تعرف أنّ عكّا هي بيتها الجميل ومكانها الأوّل الذي تحبّه. علّمتنا النوارس أن نتمسّك ببيوتنا وألا نتركها أبدًا. إنها تحفظ خريطة المدينة في قلوبها الصغيرة، مثلما يحفظ الأطفال قصصهم المفضّلة ولا ينسونها أبدًا.”

فتحت ليان عينيها اللامعتين وقالت وعلى محيّاها ترتسم ابتسامة دافئة: “لقد فهمت الآن يا عمّ أبا زيد… طيور عكّا لا تغادر البحر، لأنها تعرف أن فلسطين هي البيت الدافئ، والميناء هو قلبها الذي لا يتوقف عن النبض أبدًا!

وصيّة البحر لأطفال فلسطين

مع ظهور أول خيوط الفجر، عاد الثلاثة إلى الميناء. كان الهواء نقيًا باردًا منعشًا، وراح الصيّادون يجهّزون شباكهم لرحلة جديدة. فيما حلّقت الطيور من فوقهم بهدوء، كأنها تقول لهم: “صباح الخير، نتمنى لكم صيدًا مباركًا.”

أخرج العمّ أبو زيد من جيبه صَدَفة بيضاء كبيرة لامعة قدّمها إلى ليان:

“هذه هدية من البحر خصيصًا لكِ. كلما وضعتِها على أذنكِ، ستسمعين صوت الموج يقول: هنا عكّا الجميلة… هنا فلسطين الحبيبة.” ضمّت ليان الصدفة إلى قلبها سعيدة بهذا الكنز الثمين.

ثمّ وقفت بجانب المنارة العالية ولوّحت للنوارس: «أعدكِ أيّتها النوارس! حتى وإن سافرتُ يومًا، سأعود إلى عكّا تمامًا مثلما تعودين كلّ مساء. لأنّ عكّا وفلسطين باقيتان في القلب إلى الأبد.”

رفرفت الطيور عالياً وصفّقت بأجنحتها، وكأنها فهمت الوعد الذي قطعته ليان.

أشرقت الشمس، واصطبغ البحر بلون ذهبيٍ لامع، فبدا كلوحة فنيّة رسمتها فرشاة فنّان ماهر. همست ليان محدّثة نفسها:

“سأروي هذه الحكاية لكلّ أصدقائي. سأقول لهم إنّ عكّا مدينة فلسطينية تحبّ البحر، وإنّ ميناءها قلبٌ كبير ودافئ، وطيورها تعلّمنا أن نعود دائمًا إلى أرضنا.”

اقرأ المزيد من قصص المغامرات على حدّوتة.

Exit mobile version