في أحد الصباحات الصافية، جلسَت ليان على صخرةٍ قريبة من ميناء عكّا بعد طريق سفر متعب، تُراقب صفحة المياه المياه تتلألأ تحت أشعّة الشمس، وتستمتع بالأمواج الخفيفة تتكسّر على رصيف الميناء. كانت النوارس تحلّق قريبة من سطح الماء، ثم تطلق جناحيها، وترتفع مبتعدة مصدرة صياحًا حادًّا يبدو كصرخات فرحة مستمتعة بالحريّة.
“أبي! لماذا تحلّق النوارس دومًا بالقرب من البحر؟”
ابتسم الأب وقال: “ربّما لأن الشاطئ هو بيتها، ومسكنها. وعلى أيّة حال، فطيور عكّا لا تغادر البحر…إنها باقية هنا، متمسّكة بمنازلها.”
“مضى وقت طويل منذ أن أتينا إلى عكّا، إنها مدينة جميلة للغاية، يا أبي…”
“بالطبع يا صغيرتي، عكّا مدينة لا تُشبِه أي مدينة، فهي بوابة فلسطين على البحر، تحكي منذ مئات السنين قصص الشجاعة والصمود.”
وبينما هما يتأملان البحر، مرّ رجل يحمل شبكة على كتفه، يخطو بخطواتٍ واثقة وكأنه يعرف كلّ حجر في الميناء. نظر إليه الأب مليًّا كما لو أنّه يحاول تذكّر ملامحه، ثمّ ناداه فجأة حينما تعرّف عليه “أبو زيد؟» توقّف الرجل والتفت نحو مصدر الصوت، مستغربًا:
“نعم، أنا هو” أجاب.
صافحه الأب بحرارة وقال معرّفًا عن نفسه: “أنا ابن الحاج يوسف… وهذه ابنتي ليان.”
أشرق وجه أبي زيد وقال: “يا سلام! مرّت سنوات طويلة، وها أنتم تعودون إلى عكّا، أهلا بجيراننا الطيبين.”
رفعت ليان رأسها نحوه بفضول، فسألها بلطف: “تحبّين البحر يا صغيرة؟”
أجابت بخجل: “نعم كثيرًا، وأحبّ بحر عكّا أكثر من كلّ البحار في العالم.”
ضحك أبو زيد وقال: “تشتهر مدينة عكّا بجمال ساحلها، ويحكي موج البحر للزائرين قصصًا شيّقة من غابر الزمان عن المدينة وأهلها، كلّ ما عليكِ فعله، هو السير على الشاطئ بهدوء والإنصات!”
“حقاً؟! أريد أن أعرف كلّ قصص وحكايا المدينة!” هتفت ليان وعيناها تلمعان فضولاً وحماسة.
وضحك كلّ من الأب وأبا زيد، ثمّ أردف هذا الأخير قائلا:
“أنا أتجوّل كلّ يوم بين الميناء والسوق والسور بحكم عملي، فما رأيكِ أن ترافقيني يوم الغد، لأقصّ عليكِ حكايات المدينة؟”
تحمّست ليان للفكرة، والتفتت لأبيها ترجوه الموافقة على أن ترافق هي العمّ أبا زيد في جولته اليومية:
“لا مانع لديّ، ولكن بشرط واحد، أن تُحسني التصرّف، ولا تشغلي العمّ عن أعماله وأشغاله!”
“أعدك بذلك يا أبي!” هتفت ليان مجدّدًا بسعادة.
هزّ أبو زيد رأسه موافقًا: “غدًا نبدأ… فكل زاوية هنا تحمل حكاية، وعكّا تعرف كيف ترويها لمن يصغي.”
سوق عكّا… رائحة الأرض والبحر
في ظهيرة اليوم التالي، وبينما كانت الشمس تنسج خيوطها الذهبية على جدران المدينة العتيقة، اصطحب العمّ أبو زيد ليان إلى السوق القريب من الميناء. كانت أزقّة السوق بمثابة ممرات للزمن، ضيّقة لكنّها تعجّ بالحياة والنور، يتسلل الضوء إليها خجولاً من بين الأبنية المعمّرة، تلك الشواهد الصامتة المشيّدة من حجارة تحمل بين طيّاتها عبق القرون الغابرة. شعرت ليان وكأنّ كلّ خطوة تخطوها على تلك الأرض هي مصافحة للأجداد الذين زرعوا الحياة هنا وعمّروا المدينة.
سارت ليان بين دكاكين البهارات التي تفوح منها رائحة الأرض: الزعتر الممزوج بالذاكرة، والسماق الحامض كالحنين، والكمّون الذي يدفئ القلب. لم تكن مجرّد روائح، بل كانت هويّة الأرض التي تُنادي؛ شعرت أن كلّ حبّة زعتر تشبه ورقة من كتاب فلسطين المفتوح، فصارت تتنشّق الروائح بعمق وشغف، وكأنها ترتوي من بئر عذب.
ابتسم أبو زيد بحبّ وأشار إلى بوابة حجرية عالية تلامس السماء:
“هذا هو خان العمدان، يا ليان. هنا كانت ترسو أحلام التجّار القادمين بالسفن، تبادلوا البضائع والأسرار، ورووا قصص السفر. وما زال المكان شاهدًا حيًّا على زمنٍ لم يرحل، بل تحوّل إلى ذكرى متمسّكة بالبقاء.”
مرّا بجانب نحّاسٍ يدقّ أوانيه النحاسية بصبر وحكمة، وخبّازٍ يخرج الفرن فطائر ساخنة تفوح منها رائحة الزعتر الشهية، وصبيّ يبيع أصدافًا لامعة جمعها من الشاطئ، وكأنها حبات لؤلؤ مكنونة.
في زاوية من السوق، جلس حكواتيّ ذو لحية بيضاء اشتعل فيها الشيب، يحمل دفترًا قديمًا ممزّق الأطراف يقول:
“من يريد حكاية من حكايات فلسطين التي لا تنتهي؟”
رفعت ليان يدها الصغيرة بسرعة وحماس. ابتسم الحكواتيّ وقال بصوت عميق يهزّ الروح:
“عكّا يا صغيرتي مدينة عريقة، والسوق هو قلبها النابض وشريانها الذي لا يجفّ. فيه يجتمع الناس، يتبادلون الرزق والضحكات، وفيه يثبتون أن عكّا، رغم كلّ ما مرّت به من عواصف وقهر، ما زالت عامرة بأهلها، فلسطينيةً بروحها وتراثها، لا يكسرها غياب، ولا ينهيها احتلال.”
نظرت ليان حولها بدهشة الطفل الذي يرى العالم للمرّة الأولى، ورأت كيف يلتقي في السوق عبق البحر بعبق الأرض، وكيف تحوّلت الدكاكين إلى صفحات من ذاكرة حيّة، تحفظ قصص فلسطين كما تحفظ الأمّ أطفالها، تحتضنهم ولا تفرّط فيهم أبدًا.
السور الذي لا ينحني
ما إن بدأت الشمس تميل نحو الغروب، حتّى قاد العمّ أبو زيد ليان ووالدها نحو سورضخم جدًا يحيط بالمدينة: إنه سور عكّا العظيم! كان السور يلتف حول عكّا مثل ذراعَي بطل عملاق يحتضنها ويحميها من أي خطر. مدّت ليان يدها ولمست الحجارة الكبيرة والقديمة، شعرت بدفء غريب، وكأنّ هذه الحجارة خزّنت كلّ حرارة الشمس التي أشرقت عليها منذ مئات السنين إلى يومنا هذا. همست لنفسها:
“نحن هنا منذ القدم…وسنبقى إلى الأبد…لن نرحل ولن نغادر أبدًا.“
قال العمّ أبو زيد بحماس: “
هذا السور يا ليان ليس مجرد حجارة ضخمة! إنه صديق عكّا القديم، وشاهد على كلّ شيء حدث فيها. حاول الكثيرون أن يهدموه، لكنّه ظلّ واقفًا كالجبل، يخبر الجميع أن عكّا مدينة قوية جدًا ولا يمكن أن تنحني!”
ساروا على طول السور بالقرب من البحر. كانت الأمواج تتلاحق بسرعة ثم تضرب السور بقوة، ثم تعود بهدوء، كما لو أنّها تصافح السور وتحيّيه على شجاعته. سألت ليان بفضول:
“من الذي بنى هذا السور يا عمّ؟”
أجابها:
“بناه أناس كثيرون عبر العصور، وكلّ حجر وُضع هنا كان بمثابة وعد بحماية فلسطين. ولهذا السبب، لا يُشبه سور عكّا أي سور آخر في العالم، إنه حامي المدينة الذي يقف شامخًا بقوة وثبات!”
وصلوا إلى فتحة صغيرة في السور تُطلّ على الميناء. أغمضت ليان عينيها وبدأت تتخيّل: رأت بحّارة شجعانًا يعودون من السفر، يرفعون رايات ملوّنة ويغنّون أغاني الفرح! في تلك اللحظة، قال العمّ أبو زيد وهو ينظر إلى البحر: “حتى النوارس والطيور تعرف هذا السور! إنها تعود كلّ مساء إليه وتهمس له: “هذه مدينتنا، عكّا… مكاننا الجميل الذي لا يغادر القلب!”
المسجد الأخضر… قلب المدينة الهادئ
بالقرب من الميناء، وقف بناء عظيم وجميل جدًا: إنه مسجد الجزار! كانت مآذنه ترتفع نحو السماء وقبّته الخضراء تلمع تحت أشعة الشمس. دخلت ليان مع والدها والعمّ أبا زيد إلى ساحة المسجد الهادئة.
ما أجمل هذا المشهد! كانت حمامات بيضاء جميلة تطير فوق الأقواس الحجرية العالية، والبلاط في أرضية الساحة كان نظيفًا لامعًا.
همس والد ليان بهدوء: “هذا المكان يا ليان، يصلّي فيه الناس منذ مئات السنين. وهنا كانوا يدعون الله أن يحمي البحّارة والمسافرين ويعيدهم سالمين. المسجد ليس فقط مكانًا للعبادة، بل هو بيت كبير يجمع قلوب أهل فلسطين، يحفظ هويتهم وطيبتهم مثلما يحفظ البحر ملوحته دائمًا.”
سألت ليان بفضول الأطفالِ: “هل للمسجد حكايات مثل حكايات السور القوي؟”
ابتسم العمّ الطيب بحبّ قائلاً: “بالتأكيد يا صغيرتي! لكلّ قوس في هذا المسجد حكاية، ولكلّ نافذة قصّة ولكلّ مئذنة رواية، وجميعها تشهد أنّ هذه الأرض المباركة أرضنا.”
جلست ليان تحت ظلّ شجرة كبيرة في ساحة المسجد. أغمضت عينيها وتخيّلت البحّارة سدخلون الجامع بعد أن يعودوا من رحلة طويلة في البحر، يصلّون ويحمدون الله على نعمه الوافرة، ثم ينتشرون في المدينة يملأ السلام يملأ أرواحهم. قالت ليان بصوت حالم:
“المسجد مثل حضن دافئ وكبير يحتضن كلّ الناس.”
ردّ العمّ أبو زيد وهو يبتسم لها: “صحيح يا ليان، حضن الإيمان والهوية! ومن يحتمي بهذين الأمرين، يبقى قويًا جدًا ولا تهزّه أي عواصف أو صعاب في الحياة.”
النوارس وحكاية العودة
عندما حلّ المساء الجميل، وجلسوا عند طرف الميناء الهادئ. اشتعل ضوء المنارة البعيدة، وبدت وكأنها عين عملاقة ساهرة تحرس الطريق البحري وتدلّ السفن. هدأت النوارس البيضاء الصغيرة فوق الأعمدة الخشبية، وصار صوت البحر أعمق وأكثر هدوءًا.
قال أبو زيد بصوت حنون: “الليلة يا ليان، سيخبرنا البحر سرّ طيور عكّا العجيبة.”
أغمضت ليان عينيها بتركيز، وبدأت تُصغي وتتخيّل. تخيّلت بحّارًا قديمًا جدًا، ذو وجه سمح، ينبثق من بين الأمواج ويرفع صوته الوقور قائلًا:
«يا أهل عكّا، يا أحبّاء البحر…هذه النوارس ليست طيورًا عادية، وإنمّا هي صديقات عكّا الوفيّات! في كلّ صباح، تحلّق فوق البحر، تصطاد الأسماك، وتلاعب الأمواج. لكن عندما يأتي المساء، تعود جميعها لتقف على سور عكّا ومينائها. لماذا؟ لأنّها تعرف أنّ عكّا هي بيتها الجميل ومكانها الأوّل الذي تحبّه. علّمتنا النوارس أن نتمسّك ببيوتنا وألا نتركها أبدًا. إنها تحفظ خريطة المدينة في قلوبها الصغيرة، مثلما يحفظ الأطفال قصصهم المفضّلة ولا ينسونها أبدًا.”
فتحت ليان عينيها اللامعتين وقالت وعلى محيّاها ترتسم ابتسامة دافئة: “لقد فهمت الآن يا عمّ أبا زيد… طيور عكّا لا تغادر البحر، لأنها تعرف أن فلسطين هي البيت الدافئ، والميناء هو قلبها الذي لا يتوقف عن النبض أبدًا!“
وصيّة البحر لأطفال فلسطين
مع ظهور أول خيوط الفجر، عاد الثلاثة إلى الميناء. كان الهواء نقيًا باردًا منعشًا، وراح الصيّادون يجهّزون شباكهم لرحلة جديدة. فيما حلّقت الطيور من فوقهم بهدوء، كأنها تقول لهم: “صباح الخير، نتمنى لكم صيدًا مباركًا.”
أخرج العمّ أبو زيد من جيبه صَدَفة بيضاء كبيرة لامعة قدّمها إلى ليان:
“هذه هدية من البحر خصيصًا لكِ. كلما وضعتِها على أذنكِ، ستسمعين صوت الموج يقول: هنا عكّا الجميلة… هنا فلسطين الحبيبة.” ضمّت ليان الصدفة إلى قلبها سعيدة بهذا الكنز الثمين.
ثمّ وقفت بجانب المنارة العالية ولوّحت للنوارس: «أعدكِ أيّتها النوارس! حتى وإن سافرتُ يومًا، سأعود إلى عكّا تمامًا مثلما تعودين كلّ مساء. لأنّ عكّا وفلسطين باقيتان في القلب إلى الأبد.”
رفرفت الطيور عالياً وصفّقت بأجنحتها، وكأنها فهمت الوعد الذي قطعته ليان.
أشرقت الشمس، واصطبغ البحر بلون ذهبيٍ لامع، فبدا كلوحة فنيّة رسمتها فرشاة فنّان ماهر. همست ليان محدّثة نفسها:
“سأروي هذه الحكاية لكلّ أصدقائي. سأقول لهم إنّ عكّا مدينة فلسطينية تحبّ البحر، وإنّ ميناءها قلبٌ كبير ودافئ، وطيورها تعلّمنا أن نعود دائمًا إلى أرضنا.”
اقرأ المزيد من قصص المغامرات على حدّوتة.
