رحلة سليم إلى القدس | سلسلة حكايات فلسطين

شوق في القلب إلى القدس

في طرف القرية الهادئة، كان يقف بيت الجدة مثل شاهدٍ على الزمن، مبنيًّا من حجارة بيضاء قديمة نحتتها الشمس والرياح عبر السنين، سقفه مغطّى ببلاطٍ أحمر لامع، يزداد بريقه كلما داعبه ضوء الغروب الذهبي. أمام البيت، تمتد حديقة صغيرة تحمل رائحة الحياة: شجرة ليمون متدلية الثمار، شجرة رمان حمراء كحبات الياقوت، وآنية فخّار قديمة زرعت فيها الجدة نعناعًا يفوح عطْره في الأرجاء كلما هبّت نسمة عليلة. بجانب الباب الخشبي العريض المزوّد بمقبض نحاسي لامع، علّقت الجدة قفّة من القشّ فيها خبز الطابون الساخن يبرد ببطء، ناشرًا رائحة تملأ المكان دفئًا وطمأنينة.

جلس سليم في الفناء الواسع، يراقب أرضيته المرصوفة بحجارة ملساء رتبتها الجدة بعناية لتبقى صلبة رغم مرور الأعوام. في الزاوية بئر ماء قديمة معطًّى بغطاء خشبي، تحيط به نباتات بريّة صارت جزءًا من ذاكرة المكان. كان كل ركن من البيت يحكي قصة، والجدة تحرص أن يبقى كل شيء كما تركه الأجداد، كأنها تخاف أن تنطفئ الحكاية إذا تغيّر شكل الحجر أو رائحة التراب.

نظرت الجدة إلى حفيدها، وقالت بصوتٍ حنون، كأنها تكرّر درسًا يعرفه قلبها قبل لسانها:
– “في القدس مسجد مبارك اسمه المسجد الأقصى، باركه الله وجعله مكانًا عزيزًا على قلوب المؤمنين.”

رفع سليم رأسه بسرعة، وعيناه تتألقان بفضولٍ لا ينطفئ، وقال بشغف:
– “يا جدّتي، هل سنذهب يومًا لرؤيته؟”

ابتسمت الجدة، وتجاعيد وجهها ازدادت إشراقًا، وقالت:
– “بإذن الله يا بني. القدس مثل جوهرة محفوظة في قلب الزمان، كل من يراها يزداد حبًّا لها. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تنعم فيه عيناك برؤيتها.”

ظلّ كلام الجدة يتردّد في أذن سليم كأنشودة. جلس صامتًا، لكن قلبه كان معلّقًا هناك، بالمسجد الأقصى. أخذ يتخيّل القباب اللامعة تعكس نور الشمس، والأسوار القديمة التي تحرس المدينة منذ قرون، والأبواب الضخمة التي تنفتح على طرقات ضيّقة مليئة بالحياة. تخيّل نفسه يمشي في تلك الأزقّة، يلمس حجارتها، يسمع دعاء المصلّين يتردّد بين المآذن، ويشم رائحة الخبز الطازج الذي تحبّه جدته.

وفي تلك الليلة، وهو يتهيّأ للنوم، رفع كفّيه الصغيرتين ودعا الله أن يحقق أمنيته، ثم غفا سريعًا. وفي حلمه، وجد نفسه في قلب القدس، يسير بخطوات واثقة، كأن المدينة فتحت له ذراعيها لتقول: “مرحبًا بك يا سليم، كنت في قلبي منذ زمن”

بداية الرحلة

في صباحٍ من الصباحات تحقق الحلم! استيقظ سليم على صوت والده وهو يقول:

– “استعد يا سليم، اليوم سنزور القدس.”

قفز سليم من فراشه ووجهه يضيء فرحًا. غسل وجهه بسرعة وارتدى أجمل ما في خزانته. حمل حقيبته الصغيرة، وفيها دفتر رسم وألوان، فقد قرّر أن يرسم كل ما يراه في رحلته.

جلس في السيارة إلى جانب والده، وبدأت الطريق تمتد أمامهما. على الجانبين صفوف طويلة من أشجار الزيتون، جذوعها قوية كأنها تحرس الأرض منذ مئات السنين، وقطرات الندى تلمع على أوراقها الخضراء، والعصافير تطير بين الأغصان وتغرد بمرح.

نظر سليم من النافذة بعينين لامعتين وقال:
– “كم هي مباركة أرضنا يا أبي!”
ابتسم الأب وأجاب:
– “نعم يا بني، هذه الأرض تشهد على قصص الأنبياء، وتحمل في ترابها حضارة عريقة.”

مرّا بقرى هادئة بيوتها من الحجر الأبيض، وأسقفها مقوّسة بلون الطين، وأمامها أحواض زهور ملونة. في الطرقات كان الأطفال يركضون بمرح، بعضهم يحمل كعكًا بالسمسم، وآخرون يلوّنون السماء بطائرات ورقية صغيرة.

فتح سليم دفتره وبدأ يرسم بسرعة: شجرة زيتون نضرة، بيتٌ قديمٌ بباب خشبي، بئر ماء بجانب حديقة صغيرة، وتلّة خضراء تمتد نحو الأفق. كان يشعر أن الطريق نفسه يحكي له قصة طويلة قبل أن يصل إلى القدس.

أغمض عينيه للحظة، وتخيّل أن الأشجار تلوّح له بيدها، وأن الحجارة تهمس له: “أهلاً بك يا سليم، ستزور اليوم مدينة لا تُنسى.”

أبواب القدس وأسواقها

بعد رحلة ممتعة، ظهرت أسوار القدس من بعيد، شامخة بلونها الحجري العتيق. اقتربت السيارة شيئًا فشيئًا حتى توقّفت عند أحد أبواب المدينة القديمة. كان الباب ضخمًا مقوّسًا مبنيًّا من حجارة داكنة صقلتْها أيدي الناس وملامح الزمن. مدّ سليم يده الصغيرة ولمس الجدار البارد، فشعر وكأنه يلمس صفحةً من كتابٍ قديمٍ يروي قصص الأبطال والتجّار والحجّاج الذين مرّوا من هنا.

دخل مع والده إلى البلدة القديمة، فانفتحت أمامهما أزقّة ضيقة مرصوفة بالحجارة. البيوت متلاصقة، شبابيكها صغيرة مزيّنة بأصص الريحان، ومن فوقها تدلّت أقواسٌ بيضاء تحمي الطريق من الشمس، وتزيد المكان سحرًا ودفئًا.

امتلأت أذنا سليم بأصوات الباعة:
– “خبز طازج بالسمسم!”
– “زيت وزيتون مبارك!”
– “بهارات من أرض فلسطين!”

وتداخلت الأصوات مع الروائح الزكية: رائحة الخبز الطازج، والزعتر المطحون، والقرفة التي تذكّره ببيت الجدة. وقف مدهوشًا أمام بائع يعرض أثوابًا مطرزة بخيوط حمراء وخضراء، فسأله والده:
– “هل ترى يا سليم؟ كل غرزة في هذه الثياب تحكي قصة من قرية أو مدينة.”

ابتسم سليم وهو يلمس القماش، ثم أسرع نحو محل آخر يبيع الفخار الأزرق المزين برسومات الطيور.

لكن وسط الزحام، لمح رجالًا بملامح عابسة، يرتدون ثياب العساكر، يتحركون بخشونة ويزاحمون الناس. شدّ سليم يد والده وقال بهمس:
– “أبي، أنا خائف…”
أجابه الأب بهدوء:
– “لا تخف من هؤلاء الجنود يا صغيري، ليسوا سوى لصوص يحاولون إزعاج الناس وسرقة أرضهم، لكن المدينة تعرف كيف تحافظ على تراثها وخيراتها، وهي أقوى من كل هذه المحاولات.”

شعر سليم بالراحة من كلام والده، وقرر أن يتابع تأمله، فتح دفتره ودوّن: “القدس مدينة تفوح رائحتها بالزعتر والخبز، وتلمع حجارتها كأنها تبتسم للزائرين.”

أول لقاء مع المسجد الأقصى

واصل سليم السير مع والده بين الأزقة حتى وصلا إلى ساحة واسعة يغمرها نور العصر. هناك، وقف سليم مبهورًا، وقد اتسعت عيناه دهشة، وأمامه استقرّ المسجد الأقصى بكلّ جماله.

كانت القبة الذهبية تتلألأ تحت صفحة السماء الزرقاء، في منظر بهيّ. وأحاطت بالمسجد أشجار نضرة تتمايل أوراقها بهدوء مع لنسيم العليل، فيما كان الحمام يرفرف في الأرجاء مطمئنًا، وكأنه يعرف أن هذه الأرض مباركة. ثمّ ارتفعت في الارجاء أصوات آذان العصر، فزادت المكان سحرًا وجماباً

اقتربا من المتوضأ، فغسلا وجهيهما ويديهما بماءٍ باردٍ رقراق، أحسّ سليم معه بصفاءٍ عجيبٍ يغمر قلبه. دخل مع والده المسجد الأقصى، فشعر كأنّه يدخل قلب التاريخ نفسه. كانت الأعمدة الرخامية البيضاء ترتفع عالية في السماء، مزخرفة بنقوشٍ هندسيةٍ دقيقةٍ تتشابك كأنّها نجمات صغيرة من الضوء. الزخارف الملوّنة تملأ الجدران، والخشب المنقوش في السقف يروي حكاياتٍ عن أيدٍ بارعةٍ صلّت وهي تبنيه.

وقف سليم بجانب والده في الصف، وصلّيا العصر مع جماعة المصلّين. كان صوت الإمام يملأ القاعة بخشوعٍ مهيب، والنسيم القادم من النوافذ العالية يحمل معه رائحة الطهر والسكينة. شعر سليم أن صلاته هنا تختلف عن أي صلاةٍ صلاّها من قبل… كأنّ السماء أقرب، وكأنّ الدعاء يصعد دون عناء.

بعد الصلاة، جلسا تحت شجرة زيتون معمّرة، جذعها العريض يشبه ذراعًا عظيمة تحضن المكان. أخرج سليم دفتره بسرعة، وبدأ يرسم القبة بخطوطٍ مرتعشة من شدّة الفرح. كان قلبه يخفق بقوة، وكأنه يكتب بيده ذكرى لا تُمحى.

اقترب والده منه وقال بلطف:
– “المسجد الأقصى أمانة غالية يا سليم. من يحبّه، يحميه بالدعاء، وبالعمل الصالح، وبالذكر الطيب.”

رفع سليم رأسه بحماس وقال بثقة:
– “سأحمله في قلبي دائمًا يا أبي… ولن أنساه أبدًا.”

حلّقت مجموعةٌ من الطيور البيضاء فوق الساحة، فرفع سليم بصره نحوها، يراقبها وهي تدور في سماء القدس بطمأنينة. شعر في تلك اللحظة أن حتى الطيور تصلي بطريقتها، وأن زيارته الأولى للأقصى لم تكن مجرد رحلة، بل عهدًا بينه وبين هذا المكان المبارك، سيحمله في قلبه ما عاش.

حكاياتٌ من الزمن

بعد أن فرغ سليم ووالده من جولتهما في الساحة، اتجها إلى السوق القريب من المسجد الأقصى ليستريحا. كان السوق نابضًا بالحياة: دكاكين صغيرة متلاصقة، بسطات مليئة بالفاكهة والبهارات، وباعة ينادون بمرح يجذب المارة. رائحة القهوة الطازجة امتزجت مع رائحة الخبز والكعك بالسمسم، فحاول أنف سليم التقاطها كلها بحماس!

جلس الأب وابنه عند دكّان يبيع الكتب والخرائط القديمة. كان صاحبه شيخًا مسنًّا، لحيته بيضاء وابتسامته هادئة، وعيناه تلمعان كأنهما تعرفان أسرار المكان. نظر إلى سليم وقال بلطف:
– “هذه أول زيارة لك يا صغيري، أليس كذلك؟”

أجاب سليم وهو يهز رأسه بحماس:
– “نعم يا عم، وقد شعرت أنني أعرف المدينة منذ زمن!”

ضحك الشيخ وقال:
– “هذا لأن القدس تسكن في قلب كل مؤمن قبل أن يراها. مرّ من هنا العلماء والرحّالة والتجّار، كل واحد منهم ترك أثرًا في حجارتها وأسواقها. إنها مدينة لا تنسى زائريها.”

أشار الشيخ إلى رفوف الكتب والبطاقات، ثم تابع:
– “كل حجر هنا يحكي قصة، وكل زقاق فيه ذكرى. حتى وإن جاء المحتلّون ليزعجوا الناس ويسرقوهم، تبقى القدس مثل شجرة زيتون، عميقة الجذور، لا تسقط أبدًا.”

جلس سليم مأخوذًا بكلامه، ثم فتح دفتره وكتب: “القدس مدينة تحفظ الحكايات، مثلما تحفظ الجدة قصص الأجداد.”

مرّ أمامهم طفل يحمل عربة صغيرة مليئة بالكعك الساخن، يوزعها مبتسمًا على الزبائن. ضحك الشيخ وقال:
– “حتى هذا الكعك له قصة هنا، فالقدس تحفظ طعمها ورائحتها كما تحفظ أبوابها وأسوارها.”

شعر سليم أن السوق ليس مكانًا للبيع والشراء فقط، بل كتابًا مفتوحًا للحكايات، كل شخص فيه سطر، وكل زائر كلمة جديدة. نظر إلى والده وقال:
– “أريد أن أحفظ هذه القصص كلها، لأرويها لأصدقائي.”
ربّت والده على كتفه بفخر، وقال:
– “وهكذا تصبح أنت جزءًا من الحكاية.”

وعدٌ لا يُنسى

مع اقتراب الغروب، عاد سليم مع والده إلى الساحة الواسعة أمام المسجد الأقصى. كانت السماء قد بدأت تتلوّن بخطوط حمراء وبرتقالية، والقبة الذهبية تعكس ضوء الشمس الأخير فتزداد جمالًا وبهاءً. جلسا قليلًا على طرف الدرج الحجري، والنسيم يحرّك أوراق الزيتون في هدوء.

وقف سليم يتأمل المشهد طويلًا، ثم التفت إلى والده وقال بصوتٍ مملوء بالعزم:
– “أبي، أعدك أنني سأعود إلى القدس مرات كثيرة. أريد أن أحفظ كل زاوية فيها، وأرسم كل شجرة وكل حجر.”

ابتسم والده ووضع يده على كتفه وقال:
– “ومن يحب القدس حقًّا، يحملها في قلبه حتى لو ابتعد عنها. وكلما حدثتَ أحدًا عن جمالها، تكون قد عدت إليها من جديد.”

أخرج سليم ورقة ملوّنة من حقيبته، ورسم عليها بسرعة قبة المسجد الأقصى، ثم كتب تحتها: “القدس في قلبي إلى الأبد.” رفع الورقة عاليًا وكأنه يرسل وعده مع نور الغروب.

في طريق العودة بالسيارة، ظل سليم ينظر من النافذة. رأى الأطفال يلعبون أمام بيوتهم، والباعة يغلقون دكاكينهم، والطيور تعود إلى أعشاشها. لكن قلبه ظل معلّقًا هناك، في الساحة الكبيرة حيث القبة المضيئة.

وعندما وصل إلى البيت، كانت جدته بانتظاره عند الباب. ركض إليها وهو يهتف:
– “يا جدتي! رأيت المسجد الأقصى بعيني… كان أجمل من كل ما حكيته لي!”

دمعت عيناها وهي تضمّه وتقول:
– “بارك الله فيك يا بني. لقد عدت ومعك نور من القدس.”

جلس سليم بجانبها يصف لها تفاصيل رحلته: الأزقة الضيقة، الأسواق المليئة بالبهارات، الأطفال الذين كانوا يلعبون، والحمام الذي يرفرف في ساحات المسجد. عرض عليها دفتره المليء بالرسوم، فابتسمت وقالت:
– “الآن صرتَ أنت من يحكي الحكاية، وسترويها يومًا لأطفالك كما رويتها لك.”

وفي تلك الليلة، نام سليم وهو يشعر أن قلبه كبر قليلًا. كان يعرف أن رحلته لم تنتهِ، بل بدأت، وأن الوعد الذي كتبه سيبقى معه دائمًا: أن القدس بيت له، وأن الأقصى سيظل في قلبه مهما طال الزمن.

هل أعجبتك هذه القصّة؟ اقرأ المزيد من قصص فلسطين للأطفال الآن على موقع حدّوتة

قصص الحيوان في القرآن الكريم: الهدهد والنبي سليمان

في مساءٍ دافئ، اجتمع الصغار الثلاثة حول جدتهم “أم ياسر” في غرفة الجلوس، حيث كانت تجلس على كرسيها الخشبي المريح، وبجانبها فنجان شاي دافئ تفوح منه رائحة النعناع. كان الجو هادئًا، والستائر تتمايل برفق مع نسيم المساء.

قالت الجدة بابتسامة واسعة وهي تنظر في عيون أحفادها:
“اليوم يا أحبّتي سأقص عليكم قصة من أروع قصص الحيوان التي وردت في كتاب الله الكريم، قصة طائر صغير لكنه كان شجاعًا وذكيًا… إنه الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام.”

وبدأت الحكاية: كان النبي سليمان عليه السلام ملكًا نبيًّا، أعطاه الله ملكًا لم يعطه لأحد من بعده، وجعل له القدرة على فهم لغات المخلوقات جميعًا، من طيور وحيوانات وحتى حشرات صغيرة. وكان جيشه عظيمًا يضم الإنس والجن والطير، يسيرون جميعًا بانتظام عجيب.

وفي يوم من الأيام، وقف سليمان يتفقد جنوده، فجال ببصره في صفوف الطيور، ولاحظ أن طائر الهدهد لم يكن موجودًا. فتعجّب وسأل عن مكانه، وتوعّد بتعذيبه أو قتله إن لم يكن له عذرٌ مقنع لهذا الغياب. حيث قال (كما جاء في القرآن الكريم):
“ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذابًا شديدًا أو لأذبحنه، أو ليأتيني بسلطان مبين.” – سورة النمل

رفعت سلمى حاجبيها دهشة وقالت: “جدتي! هل كان سيّدنا سليمان عليه السلام يعرف كلّ طائر في جيشه؟”
ضحكت الجدة برفق وقالت: “نعم يا صغيرتي، فقد كان قائدًا حكيمًا، لا يترك أحدًا من جنوده دون أن يعرف مكانه.”

وأضافت وهي تخفض صوتها قليلًا: “لقد كان سليمان عليه السلام يدرّب جنوده على الانضباط، حتى لو كان الجندي طائرًا صغيرًا مثل الهدهد. فالقائدُ الذي يغفل عن أصغر التفاصيل قد يُضعف جيشَه بأكمله.”

الهدهد يأتي بالخبر

واصلت الجدّة الحكاية قائلة:
“ولم يمضِ وقت كثير حتّى عاد الهدهد إلى عرش سيّدنا سليمان -عليه السلام-، يرفرف بجناحيه بقوّة، فوقف أمام النبيّ على الفور مبرّرًا سبب غيابه، إذ قال بصوت ثابت: “لقد رأيتُ ما لم تره، وأتيتك بخبر مهم عن مملكة سبأ” “أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين.” – سورة النمل
ثم بدأ يحكي ما رآه: طار بعيدًا حتى وصل إلى أرض بعيدة اسمها سبأ، وهناك وجد قومًا يعبدون الشمس من دون الله، ورأى ملكتهم، وهي امرأة عظيمة تملك عرشًا بديعًا مصنوعًا من الذهب والجواهر، لكنهم جميعًا ضلوا الطريق وتركوا عبادة الله الواحد.

قاطع يحيى القصة وقال: “إذن فالهدهد لم يكن يلعب أو يتجول عبثًا!”
ابتسمت الجدة وأجابت: “بالطبع، لقد كان في مهمة عظيمة، وأراد أن يخبر النبي سليمان بما اكتشفه.”

ثم أضافت: “كان الهدهد صغير الحجم، لكن قلبه كان مليئًا بالغيرة على التوحيد. لم يسكت حين رأى قومًا يسجدون للشمس بدلًا من الخالق العظيم، بل أسرع ليبلغ النبي سليمان بما يحدث. وهذا يعلّمنا أن المؤمن لا يقف متفرجًا أمام الخطأ، بل يسعى لتصحيحه بما يستطيع.”

اقرأ المزيد من القصص الدينية الممتعة للأطفال.

رسالة سليمان

بعد أن استمع سليمان إلى قصّة الهدهد، أراد أن يتأكّد من الخبر، فكتب رسالة إلى ملكة سبأ يدعوها فيها وقومها إلى توحيد الله تعالى، وأمر الهدهد أن يوصلها إليها. قال تعالى: “سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون.”

طار الهدهد بخفة ورشاقة، يحمل رسالة النبي في منقاره، حتى وصل إلى قصر الملكة بلقيس، ملكةسبأ. كان القصر فخمًا، تحيط به الحدائق والأنهار، وتزينه الأعمدة العالية. دخل الهدهد من نافذة عليا، وأسقط الرسالة برفق أمام الملكة.

فتحت الملكة الرسالة وقرأت ما جاء فيها بصوت عالٍ، كما ورد في القرآن الكريم:
“إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألّا تعلوا علي وأتوني مسلمين.”

جمعت الملكة كبار قومها، واستشارتهم في أمر هذه الرسالة الغريبة، فقالت:

“أيّها القوم، لقد وصلني خطاب من ملك عظيم يُدعى سليمان، يدعونا فيه إلى عبادة الله وتوحيده، فأفتوني في هذا الأمر.

قال الله تعالى على لسان ملكة سبأ: “يا أيها الملأ، أفتوني في أمري، إنه كتاب كريم من ملك عظيم، يدعونا لعبادة الله.”
وبعد نقاش طويل مع الوزراء والمستشارين، قرّرت الملكة بلقيس إرسال مجموعة من الهدايا الثمينة والغالية إلى سليمان، حتّى لا يأتي بجنوده ويدمّر بلادها.

هنا توقفت الجدة قليلًا وقالت: “انظروا يا أحبتي كيف بدأ سليمان رسالته: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه الكلمات العظيمة تفتح كل خير، وتدل على أن دعوة الحق تقوم على الرحمة لا على الغلظة.”

ردّ الملكة بلقيس وقرار النبي سليمان عليه السلام

حين وصلت الهديّة إلى سليمان ورآها، غضب غضبًا شديدًا ولم يقبلها، فقد أمّده الله عزّ وجل بملك عظيم، وكان لديه خيرات كثيرة، ولم يكن يريد من الملكة بلقيس مالاً أو هدايا، بل كلّ ما أراده منها وقومها أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا عباد الشمس. وحينما عاد رجال الملكة بلقيس إليها وأخبروها بما رأوا وسمعوا، قرّرت هي أن تذهب بنفسها إلى سليمان.

وقبل أن تصل، أراد سليمان عليه السلام، أن يريها آية من آيات الله، فسأل جنوده:

“من يستطيع إحضار عرش الملكة بلقيس إليّ قبل أن تصل إلى هنا؟” (“من يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟” – سورة النمل

فقال عفريت من الجنّ: “أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك.”، أيّ سأحضره إليك قبل أن تقوم من مجلسك، وقال رجل آخر عُرف عنه الحكمة والوقار: “أمّا أنا فسأحضره إليك قبل أن ترمش عينك.”

وكذلك كان الحال، بمشيئة الله وإذنه، تمّ إحضار عرش الملكة في لمح البصر، ولم يبقَ سوى انتظار وصول الملكة.

قالت الجدة للأحفاد: “لقد أراد سليمان أن يبين للملكة بلقيس أنّ ما عنده ليس منه هو، وإنما هو ملك ورزق من عند الله القادر على كل شيء.” ثمّ أضافت: “وهكذا يا صغاري، يتعلّم الإنسان أن العلم المقرون بالإيمان أعظم من القوة وحدها.”

رحلة الملكة إلى سليمان

كما سبق أن وضّحنا، قرّرت الملكة أن تسافر بنفسها، فأمرت بتجهيز قافلة ضخمة تحمل الذهب والفضة والعطور. وفي الصباح تحرّك الموكب الطويل عبر الصحراء. كانت الجمال تصطف في صفوف، تحمل الصناديق المذهبة والبراميل المليئة بالطيب، وكان الجنود يحيطون بالموكب لحمايته، والطبول تدقّ لإعلان الرحلة العظيمة.

الملكة في هودجها المزخرف، جلست تفكر: هل سيقبل سليمان الجدال؟ هل سيكون قاسيًا أم رحيمًا؟ وكانت في قلبها رهبة كبيرة، لكنها شعرت أيضًا بفضول عظيم لرؤية هذا الملك العظيم.

وعندما اقتربت من مدينة سليمان، رأت ما أدهشها: جيش ضخم مصطفّ في نظام عجيب، الطيور ترفرف فوق الرؤوس كأنها غيوم ملونة، والجنود يقفون بثبات. كل شيء يوحي بالهيبة والتنظيم.

قالت الجدة بابتسامة: “يا أحبتي، إن من يطلب الحق لا يخاف من الرحلة الطويلة، بل يسير بخطوات ثابتة حتى يصل إلى غايته.”

وحينما وصلت ورأت عرشها، ذُهلت وأصابتها دهشة عظيمة وتساءلت: “كيف جاء عرشي من سبأ في اليمن إلى فلسطين بهذه السرعة؟!”

امتحان الإيمان

دخلت الملكة بلقيس القصر، وكان قصرًا عظيمًا تلمع جدرانه كأنها مرصعة بالنجوم، وفي وسطه صرح مبني من أرضية زجاجية شفافة تجري تحتها المياه.

ظنّت الملكة أن الأرض ماء، فرفعت ثوبها لتخطو بحذر، فابتسم سليمان ووضّح لها أنّ الأرضية مصنوعة من زجاج تجري تحته المياه، فأدركت حينها أنّ ما تراه ليس خيالًا ولا سحرًا، بل صنعة متقنة علّمها الله لعبده ونبيّه. لقد عرفت وفهمت أنّ كلّ ما تراه ليس أمرًا عاديًا من صنع الإنسان فقط، وإنّها هو إعجاز من ربّ عظيم.

صمتت لبرهة تتفكّر وتتدبّر، ثمّ قالت أخيرًا بصوت يملؤه الخشوع:

لقد ظلمت نفسي وشعب مملكتي، والآن رأيت عظمة الخالق، لقد آمنت مع سليمان بربّ العالمين. (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.) – سورة النمل

صفق يحيى بيديه فرحًا وقال: “إذن فقد آمنت الملكة بالله!”
ابتسمت الجدة وقالت: “نعم يا صغيري، لقد آمنت بلقيس، ملكة سبأ بالله عزّ وجلّ، وأصبحت بذلك قصّتها عبرة لكلّ من يبحث عن الحق، ويسعى للإيمان بالله وتوحيده.”

ثم أضافت بحكمة: “العبرة يا أحبتي أنّ الإيمان قد يأتي بعد رحلة طويلة من التساؤل، لكن من يخلص في البحث يهده الله إلى الصراط المستقيم، وقد كانت ملكة سبأ امرأة حكيمة تبحث عن الحق، فعلى الرغم من قوّتها وملكها، لكنها أدركت أنّ ملك الله أعظم، وآمنت به وأخلصت له إيمانها.”

أردفت سلمى: “وكلّ ذلك كان بفضل الهدهد، إنّه طائر حكيم فعلاً.”

“نعم يا صغيرتي، هذا صحيح. لقد كان لهذا الطائر شأن عظيم، وقصّته تعدّ من أجمل قصص الحيوان في القرآن الكريم.”

“سأكتب عن قصّة الهدهد في موضوع التعبير المقبل. شكرًا لك يا جدّتي على هذه القصّة الجميلة.” قال يحيى.

وهكذا قبّل الأطفال جدّتهم، وخلدوا إلى النوم، وهم يحلمون بعرش الملكة بلقيس، وقصّتها مع النبي سليمان وطائر الهدهد الفريد.

اقرأ المزيد من قصص الحيوانات الممتعة للأطفال.

شاهد قصّة الهدهد والنبي سليمان كاملة على يوتيوب.

قصص الحيوان في القرآن الكريم: قصة الفيل وأبرهة

كان سليم يبلغ من العمر 10 أعوام عندما ذهب وعائلته لأداء مناسك العمرة في مكّة المكرّمة. استعدّ هو وعائلته المكوّنة من أبيه وأمه وأخيه الأكبر أيمن، وأختيه الأصغر ليلى وراما، ورافقتهم في تلك الرحلة الكريمة الجدّة الطيبة، حيث كانت تعلّم سليم وإخوته شروط العمرة وكيفيتها، وتذكّرهم بالأدعية المستحبّ دعاؤها أثناء أداء هذه العبادة العظيمة. كما كانت الجدّة أيضًا تقصّ عليهم في كلّ ليلة قصّة من قصص القرآن.

لننضمّ اليوم إلى سليم وعائلته، ونتعرّف على قصّة الفيل وأبرهة الحبشي!

ليلةٌ في مكة

في الليلة الأولى لعائلة سليم في العمرة، وبعد أن أدّى الجميع العبادات المطلوبة من طواف وسعي، وصلاة، جلس سليم وإخوته مع الجدّة ف ساحة الحرم، يستشعرون روحانية المكان، ويدعون الله بما تتمنّى نفوسهم. ثمّ قالت ليلى مخاطبة الجدّة:

“احكِ لنا قصّة يا جدّتي!”

“ماذا تقولين يا ليلى؟! لا يجب أن نسمع الحكايات في الحرم! إنّنا نؤدّي مناسك العمرة الآن!” قال سليم معترضًا.

وضحكت الجدّة برفق، قائلة:

“لا عليك يا سليم، لديّ في الواقع حكاية مهمّة، يجب أن تُحكى في الحرم على وجه التحديد!”

“وما هي يا جدّتي؟” سأل سليم مستغربًا.

“سأحكي لكم يا صغاري، حكاية عظيمة، ذكرها الله في كتابه الكريم…إنّها قصة الفيل وأبرهة، الحبشي، قصّة عن اليوم الذي حفظَ الله فيه بيتَه الحرام من الهدم».

“كلّنا آذان صاغية يا جدّتي!” هتف الأطفال معًا، وأشارت الجدّة لأحفادها أن يقتربوا منها، وانضمّ إليهم بعض الأطفال الآخرين ممن سمعوا ما قالته الجدّة عن القصّة الجديدة.

بدأت الجدّة الطيبة برواية الحكاية:
كان أهل مكة يعيشون حول الكعبة، يجلّونها ويؤمّونها بالحج منذ زمنٍ بعيد. كانوا يفخرون بأنهم جيران البيت العتيق، وأن مكة بلدٌ آمن يخرج منه الناس ويدخلون في أمان. في تلك الأيام، كان العرب يزورون مكة في مواسم معروفة، يتزوّدون ويبيعون ويشترون، ويطوفون بالبيت، وكانت الكعبة قلبًا نابضًا في صحراء الجزيرة. لكن هناك رجل بعيد في اليمن اسمه أبرهة، أراد أن يغيّر مجرى القلوب عن الكعبة.

رفعت حفيدتها الصغيرة يدها:

لكن لماذا يا جدتي؟

ابتسمت الجدة:، وأحابت:

“لأنه ظنّ أن الناس إن وجدوا بيتًا آخر عظيمًا، سيتركون الكعبة ويأتون إليه، فأراد أن يبني لنفسه مجدًا.”

كنيسةٌ عالية وطموحٌ متكبر

بنى أبرهة في اليمن كنيسةً عالية السقف، مزدانة بالزينة، أراد أن يجعلها مقصدًا للناس كي يصرفهم عن بيت الله الحرام. ولكن القلوب لا تُصرف بالقوة، والقداسة لا تُنشأ بالطوب والحجارة. سمع أبرهة أن العرب لا يزالون يأتون الكعبة، فاشتعل في صدره الغرور والغضب، وقرّر أن يسير بجيشٍ كبير إلى مكة، ومعه فيلة ضخمة لم يرَ أهل الجزيرة مثلها من قبل، يتقدمها فيلٌ عظيم يقال له “محمود”. كان يظنّ أن قوة الحديد والفيلة ستُخضع أهل مكة وتُمكّنه من هدم الكعبة.

سأل أحد الأطفال بفضول كبير:

“وهل خاف أهل مكّة؟”

قالت الجدة:

“سيأتيك الجواب، ولكن اعلموا يا صغاري أنّ الله إذا أراد أن يحفظ شيئًا، حفظه بأهون الأسباب في أعين الناس، وأعجبها في قلوبهم”. ثمّ واصلت الحكاية:

“شاع خبر خروج أبرهة وتقدّمه نحو الكعبة بفيلته، فخاف أهل مكّة بالفعل، واختبؤوا في الجبال المحيطة بالكعبة خوفًا من أبرهة وجيشه العظيم.

طريق الصحراء ومهابَة الفيل

سارت الفيلة ببطءٍ وثبات، تُحدِثُ الأرض تحت أقدامها دمدمةً كأنها طبولٌ بعيدة. والجنودُ يتفاخرون بقوتهم، يحملون العُدد ويعدّون الساعات للوصول إلى مكة. كان بعض العرب في الطريق يحاولون صدَّ الجيش فلا يفلحون.

قالت الجدة:

“يا صغاري، إن القوة ليست في كِبَر الأجسام، بل في عدل المقصد. وكم من ضعيفٍ نصره الله حين صدق قلبه”.

اقترب الجيش من مكة، فأخذ الجنود إبلًا لأحد أسيادها، وهو عبد المطّلب، جدّ الرسول عليه السلام. فعندما علم هذا الأخير بما حدث لإبله، ذهب إلى قائد الجيش ليستعيدها، وهنا تعجب القائد وقال:

“جئتُ لهدم البيت وأنت تسألني عن الإبل؟” فأجابه عبد المطّلب بحكمةٍ مشهورةٍ عند العرب: “أنا ربُّ الإبل، أمّا البيت، فله ربٌّ يحميه”.

وبعد لقاء عبد المطلب بالقائد، عاد إلى أهله ثابتًا كالجبال. جمع الناس وذكّرهم بحُسن التوكل، وأمرهم بردّ المظالم فيما بينهم، فالقلوب النظيفة تستحق النصر. قال: إذا ضاع لكم حق، فاطلبوه بأدب، وإذا قدرتم فاعفوا؛ فالصفح يجمع الشمل ويجعل الدعاء أقرب استجابة.

ساعةُ القرار

لمّا أقبل الجيش على مكة، خرج أهل البلد إلى الجبال القريبة يتحصّنون هناك، يراقبون ما سيجري والقلوبُ معلّقةٌ بالدعاء. لا سيوف تكفي، ولا رماح تغني، فالقضية أكبر من قوة البشر.

أراد الجنود دفع الفيل العظيم نحو الكعبة، لكن الفيل امتنع. كانوا يوجّهونه صوبها فيستعصي، فإذا صرفوه عن جهة البيت، هرول… ضربوه وحاولوا إرهابه فلم ينهض إلى ما يريدون، بدا أن في قلب ذلك الحيوان خشيةً لا تُفسَّر.

العبرة تتشكل شيئًا فشيئًا: ليس كلُّ أمرٍ يُقاس بالعدد والعتاد؛ فالله إذا قال للشيء “كن” كان. والأعين في الجبال تترقب، والريح تحمل همسًا: “للبيت ربٌّ يحميه”.

وعندما رأى الناس امتناع الفيل، تعجبوا من رحمةٍ أودعها الله في قلب حيوانٍ عظيم. ربما لا يفهم الفيل لغتنا، لكنه أدرك قدسية المكان. تذكروا أن للقلوب بوصلاتٍ خفية؛ تهديها الفطرة إن صفَت، وتردعها إن تجاوزت. لذلك اسألوا قلوبكم قبل أقدامكم. فالنية مرساةٌ، والمرساة تحفظ السفينة من العواصف دومًا.

الطيرُ الأبابيل وحجارةٌ من سِجّيل

ثم جاء الفرج على هيئةٍ لم تخطر لأحد. رفعت الجدة يدها كما لو أنها تُشير إلى السماء وقالت:

فإذا بطيرٍ أبابيل، أسرابًا فوق أسراب، كالغيم المتماسك، يحمل كلُّ طيرٍ حجارةً صغيرةً من سِجّيل. كانت الحجارة تبدو بلا شأن، لكنها بأمر الله تصيبُ فتُهلِك. تساقطت الحجارة على جيش أبرهة، فتفرّقوا مذعورين، لا يدرون كيف يدفعون عن أنفسهم هذا البلاء. كلّما حاولوا التقدّم، ردّتهم الضربة، وكلما لجؤوا إلى الهرب، أدركتهم المصيبة.

وواصلت الجدّة القول:

“هكذا يحفظ الله بيته، وهكذا يُري البشر أن القوة ليست فيما نراه بأعيننا فقط. فهناك قوة الأمر الإلهي، الذي لا يُغلب”.

وانتهى أمرُ الجيش إلى هزيمةٍ نكراء، وعاد من نجا منهم بالخبر الخالد: أن الكعبة محفوظةٌ بحفظ الله، وأن أبرهة ومن معه كانوا كالعُصفور المأكول؛ كالتبن الممزّق تتلاعب به الرياح.

ورفعت الجدة صوتها بتلاوةٍ ندية تقرأ سورة الفيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

أَلَمۡ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَٰبِ ٱلفِيلِ (1)  أَلَمۡ يَجعَل كَيدَهُمۡ فِي تَضلِيل (2)  وَأَرۡسَلَ عَلَيهِمۡ طَيرًا أَبَابِيلَ (3)  تَرۡمِيهِم بِحِجَارَة مِّن سِجِّيلٖ (4)  فَجَعَلَهُمۡ كَعَصفٖ مَأكُولِ (5)

سورة الفيل

ثم قالت أخيرًا: الدرس ليس في الحجارة وحدها، بل في طاعة المخلوقات لأمر ربها. فإذا التزم الصغير بما أمر الله، صار أقوى من جيشٍ كاملٍ أراد ظلمًا وعدوانًا. والعدل نور، ومن سار خلف النور لم يضل.

اقرأ المزيد من القصص الدينية للأطفال.

مكةُ آمنةٌ بفضل ربِّها

هدأ الغبار، وعاد أهل مكة من الجبال، ينظرون إلى الكعبة بعين الشكر. لم يُسجَّل نصرٌ لسيفٍ ولا لرمح، بل لقدرٍ جاء من السماء. تذكّروا، يا أحبتي:

  • أن الله يحفظ ما شاء، وكيف شاء.
  • وأن الغرور بابُ الخسارة، والتواضع طريقُ النجاة.

تألّقت عيون الصغار، وسأل أصغرهم: “يا جدتي، هل كانت الحجارة كبيرة؟” ضحكت: “لا يلزم أن تكون كبيرة لتكون قوية، المهم أنها جاءت بأمر الله. ولو شاء لجعلها نَسمةَ هواءٍ تهدم جبالًا”.

ثم أردفت تقول: “هذه سورة الفيل تُتلى إلى اليوم، تذكّرنا أن للبيت ربًّا يحميه، وأن من أراد الاعتداء على الحقّ خسر، ولو بدا قويًّا. فكونوا دائمًا مع الحق، وأحسنوا الظنّ بالله، واطلبوا العزّة في طاعته، تجدوا السلام في قلوبكم”.

الدرسُ الذي لا يشيخ

قالت الجدة في خاتمة حديثها:

“يا صغاري، لو جمع الناسُ أقوى الجيوش وأضخم الفيلة، فلن يستطيعوا أن ينالوا مما حفظه الله. القوة ليست عدوًّا، لكنها تصير شؤمًا إن حُمِلت على الظلم. أما إذا تسلّحت بالعدل والرحمة، صارت نعمةً وسلامًا”.

هزّ الأطفال رؤوسهم فهمًا، وأخذ كلٌّ منهم يعيد في قلبه مشهد الطير الأبابيل، والحجارة الصغيرة التي بدّدت جبروتًا كبيرًا. قالت الجدة: “

كلما سمعتم سورة الفيل، تذكّروا أن العبرة ليست في الحكاية وحدها، بل في الإيمان الذي يصنع في قلوبنا سكينةً وثقةً بربٍّ لا يخذل عباده”.

أطفأت الجدة قصّتها، وتفرّق الأطفال بين عائد إلى أهله، وآخر يتمشّى في أرضية الحرم المقدّسة، وبقي نور القصّة ساطعًا في أعماق كلّ منهم، يضيء لهم دربهم، ويرشدهم إلى سبل الخير.

استمع الآن إلى قصّة أصحاب الفيل على يوتيوب.

قصص دينية للأطفال: يوم في الجنة

في مساءٍ هادئ، جلست «ليان» عند نافذة غرفتها تنظر إلى النجوم. كان يومها مليئًا بالخير؛ ساعدت أمها في ترتيب البيت، وأخرجت من حصّالتها صدقةً وضعتها في صندوق المدرسة، وابتسمت لصديقتها التي كانت حزينة.

قبل أن تنام، همست بصوتٍ خافت: «اللهمّ ارزقني الجنة، وأعِذْني من النار»، ثم غفت وقلبها مليء بالطمأنينة.

رأت في حلمها عصفورًا أبيض صغيرًا، يطير حولها ويغرّد بلحنٍ رقيقٍ كأنه يقول: «تعالي معي». تبعته، فإذا بساحة واسعة لامعة كأنها من اللؤلؤ، وعلى طرفها باب كبير يضيء بنورٍ لطيف لا يؤذي العين، وفوقه مكتوب «سلام». اقتربت ليان بخطوات مترددة، فإذا بروائح طيبة مثل رائحة الياسمين تملأ المكان وتغمر قلبها براحةٍ لم تعرفها من قبل.

سمعت صوتًا هادئًا يشبه حفيف الأشجار يقول: «سلامٌ عليكم…». لم ترَ أحدًا… التفتت لترى خلف الباب حدائق بلا نهاية، وأنهارًا صافية تجري بهدوء، وأشجارًا خضراء مليئة بالثمار كأنها تبتسم لها. قال العصفور: «هذا المكان له مفتاحان: توحيد الله، والعمل الصالح». ابتسم قلبها فرحًا، وتذكرت مساعدتها لصديقتها وصدقتها الصغيرة، فعرفت أن كل عملٍ تفعله إرضاءً لله يقرّبها من هذا الباب.

مدّت يدها لتلمس أزهارًا تضيء مثل المصابيح، سألت العصفور: «هل يمكنني الدخول؟» فغرّد: «باب الجنة يُفتح لمن أحب الله وأحسن للناس. ادخلي بسلامٍ آمنة». أخذت نفسًا عميقًا، وشعرت أن العالم كله يبتسم لها وهي تخطو أول خطوة…

أنهارٌ من نور

ما إن خطت ليان أول خطوة حتى انكشفت أمامها سهولٌ خضراء واسعة، وفي وسطها أنهار كأنها خيوط من نور تجري بهدوء. نهرٌ ماؤه صافٍ أحلى من العسل، وآخر أبيض مثل الحليب، وثالث يجري بعصير من أنواع فاكهة لم ترَها من قبل، لكن رائحتها تملأ القلب فرحًا. اقتربت ليان ومدّت كفها في النهر الصافي، فشعرت ببرودةٍ جميلة وانتعاش لطيف.

قال العصفور الأبيض الذي كان يرافقها: «هذه عطايا الله لعباده الذين أحبوه وأطاعوه». سألت ليان: «هل يمكن لأهل الجنة أن يشربوا منه متى أرادوا؟» غرّد العصفور: «هنا لا عطش ولا قلق؛ كل ما تتمنينه يتحقق». جلست ليان على العشب الأخضر، أغمضت عينيها قليلًا وهي تتذكر دعاءها قبل النوم، ثم فتحت عينيها وعزم جديد يضيء قلبها: حين أعود، سأزيد من طاعة الله.

اقرأ المزيد من القصص الدينية الهادفة للأطفال

ثمار القلوب

سارت ليان في ممرٍ ذهبي تحيط به الأزهار، حتى وصلت إلى شجرة أوراقها لامعة وثمارها على شكل قلوب صغيرة تضيء مثل المصابيح. أشارت إلى ثمرة قريبة منها، فقال العصفور: «هذه ثمار تنبتها الأعمال الصالحة. كل قلب هنا هو عمل صالح لك في الدنيا».

مدّت يدها ولمست ثمرة، فوجدت طعمها حلوًا وتذكرت ابتسامة أعطتها لصديقة حزينة، واليوم الذي ساعدت فيه أمها. قالت ليان بدهشة: «إذن لا يضيع أي خير؟» رد العصفور: «عند الله لا يضيع شيء. الكلمة الطيبة، والصدقة، وبرّ الوالدين؛ كلها تتحول هنا إلى خير كبير».

قطفت ثمرة أخرى، فشعرت بقلبها خفيفًا كأن جناح طائر يلمسه. همست: «ما أجمل أن يثمر الحب!» ثم وعدت نفسها أن تزرع قلوبًا أكثر حين تستيقظ.

بيوتٌ من سلام

على بعد خطوات، ظهرت بيوت بيضاء كأنها من لؤلؤ، نوافذها مفتوحة يدخل منها النور، وعلى أبوابها لافتات مكتوب عليها «سلام». اقتربت ليان، فسمعت أصواتًا رقيقة تملأ قلبها بالطمأنينة: «سلامٌ عليكم بما صبرتم».

دخلت بيتًا، فرأت غرفًا مضيئة بلا مصابيح، وسجادًا ناعمًا كالغيم يتحرك مع خطواتها، وأكوابًا موضوعة على موائد من نور. جلست على أريكة دافئة وخفيفة، فقال العصفور: «هذه البيوت لأهل الإحسان، يزور بعضهم بعضًا بلا تعب ولا ملل».

تخيّلت ليان أصدقاءها، وتمنت أن يجلسوا هنا معها. ثم رأت في زاوية البيت مرآة تشبه صفحة ماء هادئة، وحين نظرت فيها تذكرت كل مرة صبرت فيها على الغضب أو سامحت من أخطأ، عندها امتلأ قلبها بفخر هادئ، لأنها أدركت أن الصبر والرضا سلام في الدنيا والآخرة.

مجلس الأناشيد والذكر

أخذها العصفور إلى بستان واسع، أشجاره متشابكة، وفي وسطه منصة من نور يجتمع حولها الأطفال. لا أحد يرفع صوته؛ المكان كله هادئ لكنه مبهج… تتعالى فيه أنغام جميلة، ليست عالية ولا خافتة، كلها شكر لله وحمد على نعمه.

كان كل طفل يجلس ومعه «سجل الأعمال الحسنة»؛ كل صفحة فيه تلخص عملًا صالحًا فعله في الدنيا. فتحت ليان سجلها، فرأت حروفًا مضيئة: «صدقة صغيرة، مساعدة صديقة، استئذان مؤدب، استغفار».

همست لها طفلة قريبة: «هنا يذكّرنا كلّ واحد بقصة لخير فعله في الدنيا». ابتسمت ليان وقالت: «سأجمع قصصًا أكثر بكثير». وفي تلك اللحظة ارتفع في البستان نشيد لطيف: «السلام لأهل الإحسان»، فازدادت الأشجار نضارة واخضرارًا.

رحلة على أجنحة الطيور

رأت ليان طيورًا بيضاء كبيرة الأجنحة، تشبه سفنًا خفيفة تطير ببطء… اقترب أحدها منها، وانحنى بجناحه كأنه يدعوها للركوب. جلست ليان فوق ظهر الطائر، وما إن أمسكت بريشه حتى شعرت بخفة غريبة؛ ارتفعت عاليًا فوق الحدائق، فرأت الأنهار تتلألأ كالشرائط، والثمار تلمع مثل نجوم صغيرة، والبيوت البيضاء كأنها لآلئ فوق بساط أخضر.

قال العصفور الصغير وهو يطير بجانبها: «في الجنة لا خوف من السقوط». أخذ الطائر يحلق فوق «سوق الهدايا»، حيث يتبادل أهل الجنة العطايا بلا بيع ولا ثمن.

تمنّت ليان كتابًا من نور يحكي قصص الأنبياء والصالحين من غير صور، فصار الكتاب بين يديها. ضمته إلى صدرها وقالت بسعادة: «الحمد لله».

حديقة البذور الصغيرة

هبطت ليان في حديقة مشرقة، وفيها أحواض مرتبة بعناية، كل حوض منها يحمل اسم خُلُق جميل: «رحمة، أمانة، صدق، برّ». وبجانب كل حوض جَرّة ماء مكتوب عليها «بسم الله». قال العصفور: «هذه البذور هي الأعمال التي ينوي العبد فعلها، فإذا سقاها بالدعاء والعمل كبرت».

أخذت ليان الماء وسقت «الصدق» و«البرّ»، فإذا بالأزهار تنبت بألوان زاهية فورًا. همست: «أريد أن أزرع عادة الاستئذان دائمًا، وأن أنهي واجباتي قبل اللعب». وما إن نوت ذلك حتى ظهرت زهرتان جديدتان تتفتحان أمامها، فعرفت أن النية باب عظيم.

ثم كتبت على لوحة صغيرة: «لن يمرّ يوم بلا ذكر أو مساعدة لأحد». فجاءت نسمة طيبة رفعت اللوحة إلى قوس من نور، فثبتت فيه كأنها وعد محفوظ.

الجسر الذي يعيدنا إلى البيت

اقترب المساء في الجنة، لكنه مساء بلا ظلام، بل نور دافئ يملأ القلب بالسكينة. ظهرت أمام ليان قنطرة رقيقة تمتد فوق جدول صغير، وعلى حافتها لافتة مكتوب عليها: «جسر الدعاء». قال العصفور: «من هنا تعودين إلى عالمك، ومعك هدايا لا تُرى: عزيمة، وطمأنينة، وحب للخير».

مشت ليان على الجسر، فسمعت أصواتًا تعرفها: دعاء أمها لها، وابتسامة أبيها حين يراها تحسن إلى الآخرين، وكلمة «جزاكِ الله خيرًا» التي قالتها معلمتها يومًا.

وقفت في منتصف الجسر، وشكرت ربها على النعم، ووعدت نفسها أن تجعل من كل يوم طريقًا للجنة: صلاة بخشوع، برّ بالوالدين، صدقة ولو قليلة، وابتسامة ترفع الحزن. ثم سألت العصفور: «هل أراك من جديد؟» فأجاب بصوت كأغنية لطيفة: «أنا معك في كل عمل صالح تفعلينه».

أغمضت ليان عينيها… واستيقظت على نور الفجر.

وعدُ ليان

فتحت ليان نافذتها فرأت الهلال يلمع في السماء، فابتسمت وقالت: «يا رب، اجعلني من أهل الجنة». أخذت حصالتها وأخرجت منها نقودًا لتضعها في صندوق الصدقة، وساعدت أمها قبل أن تذهب إلى المدرسة، ووعدت نفسها ألا يمر يوم بلا طاعة.

كلما تذكرت ثمار القلوب وأنهار النور، ازداد شوقها لتكون من الذاهبين إلى الجنة. وهكذا صار حلمها الذي رأته عن الجنّة بداية لأيام مليئة بالطاعات في الدنيا… وطريقًا إلى نعيم لا ينتهي.

استمع الآن إلى نشيد “أن تدخلني ربي الجنة” للأطفال.

Exit mobile version